خبر فيه من الطرافة والمرارة لو قسّمت على الناس هذه الأيام لوسعتهم جميعاً، وهو يعبِّر عن الحالة التي وصلتها صادراتنا أكثر من أي شيء آخر، فقد جاء في الزميلة صحيفة (الصحافة) في عددها أمس، خبراً عن إتلاف السلطات الليبية في مدينة الكفرة الحدودية مع السودان، شحنة من«التمباك» قادمة من السودان، وأن كتيبة من حرس الحدود والمنشآت الحيوية اعترضت شاحنة في الصحراء تحمل مادة التمباك قادمة من السودان. وتم إتلافها بحضور آمر الكتيبة ورئيس المجلس المحلي المكلف بالكفرة ورئيس اللجنة الأمنية وعدد من منظمات المجتمع المدني في المدينة.. وبما أن المالك للشحنة ليبي الجنسية كما ذكرت الصحيفة في خبرها، اسمه (ميلود الزلاوي) ومعه سائق الشاحنة السوداني، المحتجز حالياً، فإنه يجب التذكير بأن الليبيين يستعملون نوعاً من مادة التمباك أو شبيه له يُسمى (النَّفَّة)، وهي نوع من التبغ من نفس مادة التمباك، لكنها جافة لا تخلط بالعطرون مثل التمباك السوداني وتوضع بالفم. كما أنها توضع في جراب وليس في (حُقة) أو كيس كما هو في السودان، وأحياناً في طريقة استعمالها لدى الليبيين حيث توضع في الأنف، وتتقارب عموماً الاستخدامات للتمباك أو النّفة في البلدين، لكن الليبيين لا يعرفون التمباك السوداني القادم من وديان دارفور والمصنّع بطريقتنا الخاصة، بالرغم من أن أهل شمال إفريقيا هم من أدخل التمباك أو التبغ وزراعته في بلدنا، واشتهر التمباك باسم (ود عماري) وصار ماركة مسجلة لمحلات بيعه. وود عماري هذا، رجل من أهل تونس دخل السودان، ربما في زمن متقارب من محمد بن عمر التونسي صاحب كتاب (تشحيذ الأذهان في معرفة بلاد العرب والسودان)، وأدخل هذا الرجل معه بذور ونبتة التبغ أو التمباك التي تزرع في مناطق دارفور مثل وادي شقرا غرب الفاشر وطويلة ومناطق حجير قرب زالنجي ووادي كفوت في الطريق إلى مدينة كتم، حتى أن شركات التبغ القديمة في بدايات القرن الماضي حتى أواسط النصف الثاني منه، كانت تتخذ من مدن مثل زالنجي مراكز لزراعة وتجارة التبغ أو(التباكو). ولها منشآت قديمة هناك، وكانت هذه الزراعة والتجارة ولم تزل، تدر أرباحاً مهولة لأصحابها، ومن الطريف أنه في بداية عهد الإنقاذ حاول محافظ الفاشر عام 1991(محمد الفضل عجبنا) وهو من منطقة المفازة بولاية القضارف، منع زراعة التمباك وعقد ندوة أو ورشة عمل لتحريم زكاة التمباك وعدم جواز أخذ رسوم عليها، وزعم يومها أن إيرادات المحافظة تناقصت بسبب توقف دفع رسوم وضرائب هذه الزراعة والتجارة المربحة. لكن لم يكن أحد يتوقع أن تمباكها، وهو السبب الأول لسرطانات الفم وعديد من الأمراض، يصبح هو من الصادرات الرئيسة في زمن انحسرت فيه الصادرات للخارج، وبدلاً من أن تهب إلى ليبيا الإبل واللحوم والسمسم والفول السوداني والصمغ العربي والكركدي والذرة والفواكه والبرتقال أب سرة أجود أنواع البرتقال في العالم، المنتج في دارفور في سفوح جبل مرة، وجد التمباك طريقه إلى ليبيا عبر العوينات وواحة السلفي والنخيل، وسيوف الرمال القاسية في الصحراء الكبرى إلى المدن الليبية، ومن يتجول في شارع الرشيد في طرابلس وأسواق الكريمية والزهراء في سنوات سابقة، يجد تمباكنا يتصدر السلع، وله أماكن بيع ورواد من السودانيين المغتربين وبعض أفارقة من تشاد والنيجر وقليل من الليبيين الذين تعلموه من السودانيين أو وجدوا فيه صلة بتبغ (النفة) عندهم. من المؤسف أن نصدر للعالم التمباك، بينما صادراتنا التي طبقت الآفاق في أزمنة سابقة تتراجع، وتفشل الوزارات المعنية في تشجيع التجارة البينية وتسويق منتجاتنا القيمة والطيبة، ويتصدر التمباك قائمة ما يهب لجيراننا. ومن غريب الصدف أن مدينة الكفرة وهي أقرب مدن ليبيا للسودان، ظلت حاضرة منذ عقود طويلة في الحياة السودانية خاصة، وخلدتها أغنية عميد الفن الراحل أحمد المصطفي في أغنية«زاهي في خدرو ما تألّم إلا يوم كلمو تكلّم» لشاعرها الصاغ محمود أبو بكر وكان ضمن القوات السودانية التي ذهبت إلى ليبيا لمحاربة روميل «ثعلب الصحراء» في الحرب العالمية الثانية. ويقول المقطع من الأغنية «قالوا ليه القطر تقدم كُفرة نيرانا زي جهنم.. حنّ قلبه دمعو سال..» .. فلعل ارتفاع درجة حرارتها وسخونة جوها الذي يشبه السودان جعلها تسف سفة من ودعماري.!