في الوقت الذي احتفت فيه برلين بافتتاح معرض عن حضارة السودان، تتويجًا لجهود مضنية من البحث المستمر في منطقة النقعة استمرت لخمسة عشر عامًا بقيادة البروفيسور ديترش فيلدونغ مدير متحف المصريات السابق ببرلين، أعلنت هوليوود عن إنتاج فيلم جديد تحت عنوان The Machine Gun Preacher بطولة الممثل العالمي جيرارد بتلر الذي يعود للشاشة السينمائية بعد فيلم كوميدي ناجح في السنوات الماضية. ويمارس بتلر في الفيلم الذي سيتم عرضه في دور السينما الأمريكية في 23 من سبتمبر الجاري داعية البندقية هوايته المحببة في استثارة عواطف الجمهور من خلال دوره في إنقاذ الأطفال اليتامى أثناء الحرب في السودان. وقالت صحيفة لوس أنجلوس تايمز التي أجرت حوارًا مع بطل الفيلم الذي ينحدر من أصول أيرلندية أسكتلندية إنه أصابته نوبة من البكاء استمرت لمدة خمس دقائق عندما طلب أن يتحدث عن دوره في الفيلم، وأشار في حديثه إلى أنه تعلق بشخصية سام شيلدر الذي كان يدافع عن يتامى أطفال السودان في الفيلم.. ربما يكون السبب كما أشار إلى تشابه المكون النفسي بين شخصيته والدور الذي جسّده في الفليم حيث عانى سام شيلدر من اضطرابات تعاطي الكحول في بداية حياته العملية، وقال إنه كان يقاوم أثناء التصوير نوبات الانفجار العاطفي حيث كان يغالب الدموع في بعض المواقف شديدة الحميمية بالواقع المتخيَّل خاصة وأنه كان يعيش وسط العنف المتفجر، والجنون الذي لا يستطيع أحد كبح جماحه.. إنها صورة الرجل الأبيض النزيه الذي جاء إلى إفريقيا في مهمة إنسانية سامية من أجل وقف المذابح ضد الأطفال واليتامى واللقطاء.. ولأنه لا يستطيع أن يوقف جنون إفريقيا فقد استعمل العنف من أجل تنفيذ مهمته الإنسانية لا يهمه كم قتل وكم سفك من الدماء، ولكن من أجل أن تتعزز صورة المنقذ ورمزية الرجل الأبيض في تخليص إفريقيا من عنفها وجنونها ونفسها المريضة.. ولم تجد هوليوود في كل إفريقيا سوى السودان لتجسد فيه دورة الجنون والعنف ضد الإنسانية، كما لم يستقيظ ضمير أحد في إفريقيا لإنقاذ أطفال السودان اليتامى من الضياع والموت سوى هذا الرجل الأبيض الذي تخلص من عقدة إدمان الكحول في شبابه الباكر ليقوم بمهمته الإنسانية السامية في قلب إفريقيا.. قال جيسون كيلر كاتب السيناريو إنه كان يقضي وقتًا طويلاً مع الممثل بتلر لمراجعة المشاهد والدور الذي يجسده قبل التصوير فوجده شديد الارتباط والتأثر بشخصية سام شيلر الذي كان يقدم الحماية والرعاية لأكثر من ألف طفل في السودان.. قال مخرج الفليم مارك فوستر إن بتلر تفوق على نفسه في أداء هذا الدور. هذا الفيلم ينعش الذاكرة بالصورة المظلمة لإفريقيا في أفلام هوليوود.. تمامًا كما فعل فيلم هوتيل رواندا للممثل جون شيدل الذي وعد من قبل بتمثيل هوتيل دارفور بعد أن استقطبته منظمة إنقاذ دارفور مع جورج كلوني الذي استثمر نجوميته في تعقيد وتيرة الصراع في السودان.. رغم أن صورة إفريقيا في إنتاج هوليوود مظلمة إلا أن السودان في هذا الفيلم أكثر إظلامًا لأنه يجسد بؤرة العنف والقتل والانتقام، في غياب الضمير الإفريقي اليقظ لحماية ورعاية يتامى أطفال السودان، حتى يأتي الرجل الأبيض بكل نبله التاريخي والحضاري سام شيلر ليمارس مهمته الإنسانية السامية في حماية هؤلاء اليتامى لأن الرجل الإفريقي الجدير بكل منقصة أضعف أخلاقيًا من أن يقوم بمثل هذا الدور ليعمِّق من التفوق الأخلاقي والإنساني للرجل الأبيض، عندما كان المخرج العبقري ميل قيبسون الذي أخرج فيلم آلام المسيح يتجول بسيارته في لوس أنجلوس ولعبت بنت الحان برأسه تلفّظ بما عدَّه المتعصبون إساءة لليهود وضد السامية، فتعرض ميل قبسون لابتزاز وتحرُّش إعلامي كلفه الكثير وخصم من تألقه الإبداعي.. ولعل ذات العقلية التي حاصرت ميل قيبسون رغم أنه أبدع في تجسيد رمزية التضحية التي قدمها المسيح من أجل إنقاذ الإنسانية في فيلمه المشهور آلام المسيح إلا أن ذلك لم يشفع له في المجتمع المسيحي المتديِّن، ولعل ذات العقلية التي تحرَّشت بإبداع ميل قيبسون وتسيطر على دهاليز الإنتاج في هوليوود هي التي تواصل تشويه صورة السودان الذي تجسده رمزًا للقبح والعنف والدماء والجنون والموت لينقذ أطفاله اليتامى رجل أبيض أتى من أصقاع نائية ليعلم هؤلاء الهمج السود الوالغين في الدماء قيمة حماية الأطفال واللقطاء واليتامى وكيفية الاعتناء بهم، لأن قلبه عامر بالإنسانية والقيم الرفيعة، وقلوب أهل السودان مليئة بالبشاعة والقسوة والموت الزؤام. ولا شك أن إنتاج هذا الفيلم يمثل الوجه الثقافي لحملة تحالف إنقاذ دارفور التي أعطاها الممثل جورج كلوني والممثلة ميا فارو وفي وقت سابق الممثل جون شيدل الزخم الإعلامي في أروقة هوليوود. في ذات الوقت الذي تعمل فيه هوليوود رمح التشكيك في إنسانية الكائن الإفريقي وتمثله للقيم الفاضلة، أهدتنا برلين بعض الورود والثقة في قدرة الإنسان الإفريقي على إنجاز حضارة راقية وفاعلة في التاريخ الإنساني. لقد جاء البروفيسور ديترش فيلدونغ الي السودان في العام 1995 بعد أن تعرف على بعض الآثاريين السودانيين والتقى بالعالم السويسري الشهير شارل بونيه في لندن، وعندها قرر زيارة السودان سيما وهو قد عمل أكثر من ثلاثين عامًا باحثًا ومنقبًا في الحضارة المصرية، وكان يظن لوقت قريب أن السودان يمثل امتدادًا طبيعيًا للحضارة المصرية في وادي النيل، ولكن بعد أن بدأت اكتشافاته الأثرية الهائلة في النقعة تغيرت نظرته تمامًا حيث أكد أمام جمع غفير من الصحفيين في برلين أن الحضارة السودانية أسبق من الحضارة المصرية بأكثر من 200 ألف سنة، حيث كشفت حفريات الفخار عن استقلال الحضارة السودانية بنفسها وتميزها عن نظيرتها المصرية بالكثير من الخصائص والسمات، سيما في الصناعة والنقش والجماليات.. وقال البروفيسور فيلدونغ في حفل افتتاح معرض النقعة في برلين في ليلة الفاتح من سبتمبر حيث كان كثير الاحتفاء بالوفد السوداني وعلى رأسه البروفيسور يوسف فضل قال: إنهم ذُهلوا من نفاسة الكشف الأثري وقيمته التاريخية والذي يمثل 5% فقط من المدينة الملكية في النقعة، وقال إن جهود الكشف عن المدينة الملكية بكاملها ربما يستغرق أكثر من مئة سنة، مما يثقل كاهل الأجيال القادمة بعد أن مهدوا لها الطريق.. وقد سبق افتتاح ذات المعرض في مدينة ميونخ الألمانية في يناير الماضي، وقد عبَّر أكثر من 500 زائر الماني حضروا حفل الافتتاح عن إعجابهم بالحضارة السودانية القديمة.. وفي حديث مع البروفيسور فيلدونغ قال لي إنه ظل يعمل في الكشف عن أسرار الحضارة المصرية أكثر من ثلاثين عامًا، ولكن ما وجده في السودان حطّم كل نظرياته السابقة حيث بات شديد القناعة أن الحضارة السودانية أسبق من المصرية بآلاف الأعوام ولكن يحتاج إثبات هذه الحقيقة في المحافل العلمية لكثير من الصبر والمدافعة لأن البعض سيقاوم هذه الحقيقة وسيعمل على تشويهها حتى لا يُحرم من نشوة السبق والريادة الحضارية في العالم، وأبدى ملاحظة هامة عن طبيعة وثقافة الإنسان السوداني حيث قال إن الإنسان السوداني شديد الاعتداد بشخصيته وكرامته الإنسانية ولا يحتمل الإهانة والتقليل من شأنه، كما أنه لا يضعف أمام المادة والإغراءات التي تحط من كرامته لذا فإن عقلية البقشيش لم تجد إلى نفسه وعقله سبيلا.. وقال: على السودان أن يواصل سعيه لاكتشاف حضارته الإنسانية عميقة الجذور وأن يحتفي بسر تميزه واستقلاله التاريخي حيث لم يكن في يوم تابعًا أو متأثرًا بأمة أخرى حيث أثبتت حفريات الفخار أن حضارته القديمة تميزت باستقلال ذاتي وخصائص شخصية متفردة، بل ولعب دور القنطرة في الربط بين إفريقيا وحضارة المتوسط.. قلت لصديقي المثقف ونحن تقترب في متحف برلين من أحد أعمدة المعابد وهو يتضمن رسمًا بديعًا لوجه سودانية حسناء من نسل كوش القديمة جميلة التقاطيع، دقيقة الشفاه واسعة العينين، لا يسم خديها أي وسم أو شلوخ، قلت له: يبدو أن أجدادنا وجداتنا كن أكثر جمالاً ووسامة منا في الوقت الحاضر فقال ضاحكًا «كنا كويسيين لكن ما عارف الحصل شنو؟». وذلك ما أجاب عليه البرفيسور يوسف فضل في محاضرته القيمة عندما أشار إلى أن عيزانا ملك الحبشة أشار في لوحه بعد غزوه للسودان وتدمير حضارة مروي أنه شاهد أخلاطًا من البشر منهم الأحمر والأسود في كوش القديمة، مما قوَّى من ترجيحات بعض المؤرخين أن السودان أرض مهجر LAND OF IMMIGRANTS منذ التاريخ القديم حتى وقتنا الحاضر. في الوقت الذي تحتفي فيه برلين بإسهامنا التاريخي الباذخ في الحضارة الإنسانية، تسعى هوليوود لسرقة حاضرنا وتلطيخه بالدماء والتمرد والعنف والجنون، حين يأتي الرجل الأبيض ممتطيًا فرس إنسانيته وسموه الأخلاقي وتفوقه التاريخي ليحمي أطفالنا اليتامى من الفظائع والوحشية ودورة الموت الزؤام. شكرًا برلين وشكر الله سعي هوليوود.