نقلت إلينا الأنباء صبيحة غرة شوال أول أيام عيد الفطر المبارك حادثة طائرة تلودي التي كانت تقل زمرة من الأخيار لمعايدة مرابطي الوطن بمدينة تلودي الصامدة. الشهداء جميعهم.. كل منهم له نفسه وروحه ولمسته وسيرته فهم حقاً نحسبهم «خيارًا من خيار». ولما كانت تربطني صلات وعلاقات وتداخل مع الشهيدين الكريمين أبو قرون وبلايل أبى قلمي إلا أن يكتب هذه السطور المتواضعة في حقهما. فالشهيد أحمد الطيب أبو قرون الذي جاء من رحم المؤسسة الوطنية العريقة القوات المسلحة حيث انتدب منها للعمل بجهاز الأمن والمخابرات الوطني كانت له بصماته الواضحة في كل موقع حل به وفي كل وظيفة تقلدها.. فهو يعتبر من مؤسسي هيئة العمليات بالجهاز حتى كانت تعرف هذه القوة إلى وقت قريب باسمه.. ومن الحكم أنه استشهد وهو عضو فيها.. ثم عمل بولاية غرب دارفور حيث شهدت فترة عمله هناك هدوءاً أمنياً واسعاً وعلاقات تكاملية ممتدة ونشاطاً إيجابياً ملحوظاً مع كافة مكونات الدولة والمجتمع والإقليم بما في ذلك جيران الولاية من أهل تشاد الذين تربطهم الصلات والتداخل والمصالح. كما أنه حظي بتقدير وإشادات مكتوبة من عدد من المنظمات الطوعية المحلية والإقليمية والدولية التي كانت تقدم خدماتها لأهل دارفور انطلاقاً من الولاية فكان التعاون والتشاور والوضوح هي السمات الحاكمة لهذه العلاقة التي وجدت استحساناً وتقديراً. ومنها غادر الشهيد إلى السفارة السودانية بعمان الأردن التي يُختار لها من تتميَّز شخصيته بالإيجابية والإقدام وتجري في دمه محبَّة الناس والسعي لخدمتهم فكان الشهيد طوال فترة عمله بالأردن (شيخ عرب).. كان يسعى بين كل من وطئت قدماه أرض الأردن الشقيقة خدمة ومتابعة.. إرشاداً ونصحاً.. كرماً وإحساناً... فقد ظل وباستمرار مستقبلاً للمرضى وأسرهم بالمطار وزائراً لهم بالمشافي.. متفقداً لأحوالهم ومحلحلاً لمشكلاتهم... وقد عكست العبارات التي تضمنها الشريط الإعلاني بالتلفزيون القومي الذي تضمن نعي السفارة والجالية السودانية بالأردن مدى صدق وإخلاص وتفانٍ، هذا الشهيد الذي لم تفارق البسمة وجهه والأمل والبشر لكلامه.. فذهب راضياً عن نفسه مذكوراً بالخير من كل من عرفه (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية). أما الشهيد مكي علي بلايل فهو الآخر له نضالاته ومجاهداته في خدمة الدين والوطن.. عمل الشهيد بالسفارة السودانية بالقاهرة.. بداية التسعينيات نائباً للقنصل حيث تواصل مع الجالية السودانية والطلاب هناك.. وكانت له إسهاماته الواضحة تجاه قضاياهم وكان منتظماً في زياراته للأندية والدور السودانية المنتشرة بكافة محافظات مصر متفقداً لأحوالهم ومعالجاً لمشكلاتهم الهجرية وقضاياهم الاجتماعية الأمر الذي خلق له علاقة قوية بقيادات ورموز هذه الجالية إلى جانب وقوفه مع قضايا الطلاب الدارسين هناك والاستماع إليهم وفتح مسكنه ومكتبه إليهم الأمر الذي جعل الجميع يحزن عندما نقل من القاهرة إلى موسكو مترفعاً... من موسكو عاد الشهيد للوطن لينخرط في العمل السياسي من بوابة الحكم الولائي، حيث عمل وزيراً للمالية بولاية جنوب كردفان ولما كان الرجل شفيفاً وواضحاً ولا يخشى في الحق لومة لائم لم يستطِع أن يستمر هناك للتباين في وجهات النظر بينه وبين والي الولاية وقتها وعاد للخرطوم وتقلد وزارات اتحادية (التجارة الطيران المدني واستشارية السلام).. وكان دائماً يركز في حديثه لخاصته والعامة عن قيم الشفافية والإخلاص والعدل.. إلى أن كون حزب العدالة.. فالشهيد رغم التباين في وجهات النظر السياسية بينه وبين الحكومة إلا أنه لم تغب عنه هموم الوطن لحظة ولم تفارقه قضاياه مرة... حتى الصراع في جنوب كردفان ظل الشهيد ينظر إليه من زاويته القومية المتجذرة لا الجهوية والمناطقية الضيقة وخير دليل على ذلك استشهاده وهو يؤدي مهمة وطنية قيمة تعكس الدرجة العالية التي ينظر إليها الشهيد للقضايا الوطنية الكلية نابذاً القضايا البغيضة التي تضعف الوطن وتقعده. ألا رحم الله الشهيدين بلايل وأبو قرون وبقية الشهداء الكرام.. وألهم آلهم وأحباءهم الصبر الجميل وحقق الأمن والاستقرار والسلام للوطن وأهله.. والله المستعان.