إن صدق مقولة إن المصائب لا تأتي فرادى لا يحتاج إلى بينة ولا إلى شواهد ولا إلى نصوص.. لأن الأمر أجلى من الشمس.. وأوضح من رائعة النهار.. ومع ذلك فلو أحب أحد من خلق الله أن يشاكس أو يعاكس أو يواكس.. فإن ذلك لن يدوم له طويلاً.. فالمسألة السودانية بين أيدينا.. وبين أعيننا تشهد على صدق مقولة إن المصائب لا تأتي فرادى.. ولسوف أكتفي بسرد عدد من المصائب التي «أتت» إلى السودان في العقدين الأخيرين من الزمان.. وأنا اكتفيت «بإتيان» المصيبة ولم أشأ أن أستخدم مفردة غير الإتيان لعدم الحاجة. وأول هذه المصائب التي «أتت» ولا أقول حلت ولا ألقت جرانها ولا دهت ولا دفعت.. بل أكتفي بقولي «أتت» تلكم هي مصيبة العنصرية العنصرية أصبحت حالة ذهنية Meutal set والحالة الذهنية هي حالة من قولبة التفكير عند صاحبها بل هي تقولب حتى العبارات والمفردات التي يستخدمها الإنسان صاحب الحالة الذهنية. الحالة الذهنية جعلتنا ننفر من بعض المفردات ولا نستخدمها في أي سياق مهما كان حتى لا نُتهم بالعنصرية.. بالمناسبة مؤخراً مُنع في أمريكا استخدام كلمة الزنوجة Negro بأي سياق كان ومن أراد أن يتحدث عنها يمكن أن يشير إليها مجرد إشارة «تلك المفردة» That Word لأنه لو نطق بها حتى ولو سبها فلسوف يقع تحت طائلة القانون. العنصرية الآن طغت حتى دخلت بيننا نحن المسلمين الذين نحفظ عن ظهر قلب قوله صلى الله عليه وسلم «دعوها فإنها منتنة» وقوله عليه الصلاة والسلام كلكم لآدم وآدم من تراب.. لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى». أنا ليس لديّ أي اعتراض على تعيين أي شخص من الشرق أو من الغرب أو من الشمال أو الوسط وحتى من الجنوب إذا كان مسلمًا في أي منصب دستوري في السودان حتى ولو كان منصب رئيس الجمهورية وذلك بعد نهاية فترة الأخ الرئيس عمر البشير نهاية محكومة بالضوابط الشرعية لا بترهات الديمقراطية والعلمانية والانبطاح الذي لا يجر على صاحبه إلا المزيد من الانبطاح. ولكن النظر إلى هذه المناصب الدستورية على أساس جهوي وعنصري هو المصيبة.. الأخ الحاج آدم من المؤتمر الشعبي مؤهل تماماً لشغل أي منصب دستوري في البلاد.. و لا تحفظات عليه من أي طبيعة أو من أي جهة. ولكن أن يأتيها من منصة الجهوية والعنصرية فهذا ليس في صالحه ولا في صالح البلاد ولا في صالح الإنقاذ. ربما كان مما يحسب له أنه قادم من الشعبي.. وأيضاً أنه قادم من دارفور.. لأسباب بدهية.. ولكن أرجو أن تتخلص الإنقاذ من هذه الحالة الذهنية التي تجعل الإنقاذ لا تفكر إلا عنصرياً. ومن المصائب التي «أتت» مع الإنقاذ ولم تكتفِ بمجرد «الإتيان» أو «المجيء» بل ألقت جرانها .. وناخت بكلكلها.. وحلحلت.. وتمددت وغطت وباضت وأفرخت تلكم هي مصيبة التمرد. والمصيبة الكبرى في مسألة التمرد هي أن التمرد لم يعد مصيبة لقد أصبح التمرد خطة عمل.. والدليل على ذلك أن الحكومة لا تقاتل المتمرد بل تفاوضه وتترجاه وترسل له الوسطاء.. وتبدأ سلسلة الصراعات.. والتعهدات والوعود والأماني وعرض المناصب. حتى عقار قالوا عنه لا تفاوض ولا حوار إلا بعد تفريغ الولاية من السلاح!! هل نفهم أنه بعد ذلك يمكن أن يكون هناك تفاوض مع عقار وعرمان والحلو وقطاع الشمال؟! إن المتمرد مكانه حبل المشنقة لا كرسي الوزارة بالشريعة وبالوضيعة.. ولكن الإنقاذ مثلما وطّنت العنصرية هي كذلك وطَّنت التمرد. ومن حسن حظ الحكومة أنني لا أرغب في أي منصب وزاري ولا أتطلع إليه.. وإلا لكنت بسهولة ويسر جمعت خمسين أو ستين من أبناء عمومتي وخؤولتي ومن أداني قرابتي ومن أنسابي وتسللنا ولماذا التسلل نذهب جهراً إلى خور المكابراب أو غابة العقيد أو حتى أي مجموعة شقلات ولو كانت الشقلات المعروفة في الزمان الغابر لدى أهالي الدامر.. ثم أستدعي أحد أقربائي من العاملين في الصحافة وأسلمه البيان رقم «1».. ثم نهنئ بعضنا البعض وكل واحد منا يعرف أين سيكون موقعه بعد التفاوض.. بالله عليكم هل يستطيع واحد منكم أن يحصي عدد الحركات المتمردة دون أن يدون في ورقة أمامه ويقضي ساعة كاملة في التأمل والتفكير وربما احتاج إلى رزمة جرائد وصحف لمدة ستة شهور حتى يقع على أسمائها كلها في الصحافة وفي الأخبار. والله العظيم أنا لن أتمرد ليس لأنني إنقاذي.. أو حتى حركة إسلامية .. فقط لأن التمرد أصبح حاجة تافهة وحقيرة ومجرد استرزاق.. والأرزاق بيد الله. المصيبة الثالثة وليست الأخيرة هي مصيبة العلمانية.. العلمانية أصبحت جزءًا من خطاب الحركة الإسلامية وأخشى أن تصبح بعد فترة وجيزة جزءاً «من خطاب» الحركات الإسلامية وكنت أظن أن «أسلمة العلمانية» أو «علمنة الإسلام» ماركة سودانية مسجلة ولكن بدأ يتراءى إلى مسامعنا شنشنات علمانية من جهات أخرى خارج السودان.. وينسبون إلى مفكر وإعلامي سعودي أقوالاً تفوَّق بها على رصفائه السودانيين.. ولكن يمكن أن نعتبر أن «أسلمة العلمانية» أو «علمنة الإسلام» إنتاج سوداني وقد بدأت تنتشر في العالم الإسلامي انتشار النار في الهشيم إلا أنها في السودان بدأت تأخذ منذ مدة أشكالاً دستورية وقانونية بل وأصبحت تأخذ قوالب فكرية وأوشكت أن تصبح مدرسة أو تياراً والخشية أن يصبح تياراً مصادماً لأن عدداً من منسوبيه يتسنمون مواقع قيادية في الدولة مما يهدد بأن تتحول الدولة بعد فترة وجيزة إلى دولة علمانية رغمًا عن بداياتها الإسلامية.. وهذا يدل على معنى كيف تأتي المصائب فهي هنا لا تقع ولا تأتي ولكنها تتسلل. أليست هذه مصائب؟ وبقي منها الكثير، ولكن يكفيك من شر سماعه.