حتى وقت قريب كان الموروث السوداني في الزواج يقوم على الزواج من الاسرة وبالتحديد ابن العم وإن تعذر فالاقرب ثم الاقرب، وكان الزواج خارج الاسرة من الامور التي تستوجب المشورة والبحث والتقصي، ومازال الريف السوداني يحتفظ بهذه التقاليد رغم زحف المدينة على ثقافاته وتقاليده التليدة، وإن لم يتجاوز عنده الانفتاح على الآخر قبول زواج غرباء عن المنطقة. وتعتبر مدن السودان المختلفة وخاصة العاصمة أكثر انفتاحاً في مسائل الزواج، إذ أن الخرطوم تمثل بوتقة لتصاهر كل قبائل السودان وأعراقه.. وهذه المقدمة قصدنا منها التطرق الى ظاهرة اجتاحت المجتمع السوداني في السنوات الاخيرة، وهي ظاهرة امتداد جسر المصاهرة خارج حدود البلاد بزواج فتيات سودانيات من أجانب من مختلف بقاع الكرة الارضية من الجوار العربي والافريقي والولايات المتحدة واوربا والشرق الاقصى، وقد تفضله بعضهن على مواطنها. وهناك عوامل ثقافية اقتصادية واجتماعية ربما تكون حاضرة في مشهد هذه الزيجات، أو قد تكون إحدى إفرازات العولمة والانفتاح الاثيري على الآخر، مما أزال الفروق الثقافية والاجتماعية بين الامم.. «الإنتباهة» جلست الى عدد من الفتيات اللاتي خضن تجربة زواج الأجنبي، وإن كان الوقت مازال باكراً للحكم على التجربة بالنجاح أو الفشل، واستبعاد إحداث تغيير ديمغرافي في التركيبة السكانية للبلاد، كما حدث في بلدان اخرى في المدى المنظور. لم تتردد «ن» عندما طلبت «الإنتباهة» الجلوس اليها للحديث حول زواجها رجلاً أجنبياً من الشرق الاقصى، خاصة أنها من اسرة عريقة ومعروفة، وجاءت اجابتها قوية وواضحة تنبي عن ثقة وفخر باختيارها شاباً مسلماً ذا خلق ودين وتعليم متقدم، وان كان يخالفها في السحنة والثقافة، وأكدت أن الزواج الناجح يقوم على الاختيار السليم والتفاهم والتوافق، ودافعت عن اختيارها بأن زوجها يحترم المرأة ويراعي حقوقها ويقدس الحياة الزوجية، وأنها وافقت على هذا الزواج بعد أن خبرت أخلاقه وسلوكه، خاصة إنهما عملا معاً في أحد مراكز الدراسات حيث بدأت رحلة تعارفهما. ورغم تحفظ الاسرة على زواج الأجنبي في بادئ الأمر الا ان استعانتها باحد افراد الاسرة المؤثرين ساعدهما في تخطي هذه العقبة بيسر، والآن رزقا زهرة جميلة. وأضافت أن أفراد اسرته المقيمة بالسعودية قد قاموا بزيارتهما مراراً في السودان. والزوج من جانبه مدح الفتاة السودانية وأخلاقها العالية وتقديسها للحياة الزوجية و احترامها للزوج، وقال إن سبب زواجه من السودان هو البحث عن الاستقرار، اذ انه اتى للدراسة واراد الاستقرار، فوجد في الأسرة السودانية أنموذجاً للأسر المحافظة كما في بلده، وقال إن تربيته في السعودية كسرت حاجز اللغة، والمجتمع السوداني يتقبل الآخر، ولا توجد مشكلة من جانب أهل الزوجة بحكم المعرفة السابقة من خلال العمل. ومن دولة عربية شقيقة اختارت محدثتنا «س»زوجها بعد أن تعارفا خلال دراستها الجامعية، وبعد أن تعرفا على بعضهما تقدم للزواج منها فوافقت على الفور وأقنعت اسرتها باختيارها، وقد عاشا حياة زوجية سعيدة، وكانت تتواصل مع أسرته عبر الهاتف، ولم تتمكن من زيارة تلك الدولة على أمل أن تسمح لهما الظروف بزيارة وطنها الآخر، والآن رزقا ثلاث بنات، واندمج هو بدوره في مجتمعها ويعيش كأنه أحد أفراد الأسرة ويشارك في الأفراح والأحزان. وبالرغم من النماذج الجميلة لزيجات من أجانب إلا أن هنالك وجهاً آخر أردنا أن نقف على بعض نماذجه، وهي تجارب شاء لها الله أن تكون قصيرة وأحياناً مؤلمة عاشتها فتيات سودانيات تزوجن أجانب. «ك» فتاة جامعية درست باعرق الجامعات، وعملت بعد تخرجها في شركة كبرى، وهناك تعرفت على رجل اعمال من دولة عربية نفطية، وحين طلب منها الزواج وافقت دون تردد، نسبة للتهذيب والسلوك القويم والصيت الطيب لأبناء تلك الدولة، وبعد الزواج اصبح يقسم وقته بين بلاده وبلادها، ورزقا طفلتين، وفي احدى رحلاته لبلاده لم يعد، وكان الانتظار والترقب سيد الموقف، وقد نصحها عدد من المحيطين بها بطلب الطلاق عبر المحكمة للغيبة، ولكنها اصرت على الانتظار، وفي رحلة بحثها عنه عرفت انه تركها للأبد لأنه رحل عن هذه الحياة وترك لها الحزن والألم ومصير طفلتين تواجهما صعوبات جمة، أولها الانتماء الوطني وهوية وطنهما الاصلي التي تتطلب منهما تحركات ماراثونية بين سفارات دولتيهما، اضافة الى رعاية هاتين الصغيرتين. وكانت محطتنا الأخيرة زواج فتاة من وسط السودان تعرفت على شاب من شرق آسيا جاء للعمل مهندساً بإحدى الشركات الكبرى، وعندما تقدم للزواج منها اعتبرت أسرتها المحافظة الزواج بغير ابناء وطنها من المحظورات وعارضته بشدة، ولكن وسط إصرارها على الزواج به وافقت، وقد تم الزواج وعاشا فترة ليست قصيرة بالسودان، وفي إجازته قرر اصطحابها الى بلاده، وهنالك كانت البداية لنهاية هذه الزيجة، فقد قوبل زواجهما بحالة رفض شاملة من أسرته خاصة أنه من دولة مازالت تتحكم فيها روح القبيلة ولم ينعتق أفرادها رغم التطور في مناحي الحياة الاخرى من حكم وتقاليد العشيرة، فوجدت نفسها مرفوضة من مجتمع زوجها بل وأسرته، وفي المقابل لم يصمد زوجها أمام اهله مثل صمودها حين قبلت الزواج به، فطلبت الطلاق وعادت الى بلادهها، لتتحمل تجربة زواج فاشل ونظرات الأهل التي تكاد تنطق لتذكرها بتحذيرها السابق من تداعيات هذا الزواج. هذه نماذج اخترناها لنقف من خلالها على تجارب الزواج بالأجنبي بشقيه الناجح والمتعثر وتداعياته على أسر ومحيط الزوجين والأطفال في المستقبل، وهنالك نماذج متعددة قابلتنا ونحن نحاول التعرف على هذا الزواج، وهل هو ظاهرة أم حالات قليلة لم ترق لمستوى الظاهرة.