والشمس تغادر السماء نحو المغيب يوم الخميس، تلوح بجدائلها اللاهبة، للدار البيضاء «كازابلانكا»، يلتهم المحيط الأطلسي «بحر الظلمات» الكرة الحمراء، وأمواجه المتلاطمة تضرب الشاطئ الحالم بعنف ورياح الشتاء المبكرة العنيفة وأمطارها التي لا تنقطع، جعلتنا نتكوّر حول نار التاريخ التي اتقدت أركانه تشتعل في كل شيء تحكي عن علاقة السودان بالمغرب العربي في حاضرها الراهن ومستقبلها... وقبل ذلك التاريخ المجيد الذي يقف بشموخه يتحدث. في الشارع المغربي يوجد ذلك الخيط المذهّب من وشائج لم تنقطع على مر الدهور مع السودان، فمنذ سقوط الأندلس ونزوح العرب من دويلات الممالك الإسلامية بالأندلس التي سقطت الواحدة تلو الأخرى، واحتضان دولة المرابطين للفارّين من هناك، بدأت الهجرات العربية تتجه نحو الشرق وإلى الجنوب.. جنوب الصحراء الكبرى، هجرات طويلة وقوافل غيّرت مسارات التاريخ في كل الغرب والوسط الإفريقي وشمال القارة ومن أعظمها هجرة الهلاليين التي وثقتها سيرة بني هلال أو ما تعرف في دول الشمال الإفريقي العربية بتغريبة بني هلال وأشعارها وأراجيزها وأقاصيصها المعروفة التي صمدت عبر الزمن ولم تدفنها رمال الصحراء القاسية، وبقيت في صدور الرجال. قبائل ومجموعات عديدة هاجرت من المغرب إلى تونس القرويين ومنها عبر ليبيا، اتجهت مجموعات عبر مصر وشمال السودان من حدود ليبيا الشرقيةوالجنوبيةالشرقية، وبعضها قطع الصحراء جنوباً نحو مناطق دارفور ومملكة ودّاي والسلطنات القديمة في تشاد والسودان. استقرت الأسر والمجموعات الصغيرة التي وفدت إلى الدولة السنارية «السلطنة الزرقاء» التي يقول كبار المؤرخين المسلمين والمستشرقين إنها قامت كردة فعل على سقوط الأندلس، احتضنت هذه السلطنة الإسلامية الناهضة في ذلك الأوان أعداداً كبيرة من المهاجرين والأسر المغاربية وصاروا جزءاً منها ومنهم العلماء والفقهاء والتجّار وأصحاب الحرف والصنعة ممن جاءوا بثقافاتهم وتجربتهم في الحياة، وتوالت بعدها هجرات المغاربة من تلك الحقبة للسودان حتى العهد التركي وخلال فترة المهدية، جاءت بهم ظروف شتى، منها ما سمعوه عن السودان خلال السلطنة الزرقاء وما توارثته الأسماع من مرويات وقصص، وما ذكره الرحّالة الذين عبروا البلاد من أقصاها لأدناها، ومن عبروا للحج عبر السودان والصيت الذي تعالى للممالك والسلطنات السودانية التي طبقت شهرتها الآفاق. وفي غرب السودان وصلت في القرن السادس عشر الميلادي أو قبله بقليل، أفواج وأمواج من هجرات قبائل غرب السودان العربية في رحلاتها الشهيرة التي وثقتها أهازيجهم وحكاياتهم وموروثهم الشعبي العريق، من قصة أحمد المعقور شقيق أبي زيد الهلالي، إلى الأغنيات والحداء والترنيمات التي ظلت عالقة على مرِّ الزمن عن دول المغرب العربي من فاس ولمراكش ومكناس ثم إلى تونس الخضراء. هذان المساران شكّلا بعامل الترابط والوجود الفيزيائي أهم جذور الترابط القديم بين المغرب والسودان، بيد أن العامل الأهمَّ هو الترابط الديني، بانتشار المذهب المالكي الذي استوطن المغرب العربي وبرز فيه عبر تاريخ، هذا المذهب الفقهي وأهم رموزه من تلامذة الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، مثل الإمام الشاطبي وابن عبد الحكم وأبي زيد القيرواني وأبا يزيد البرزاعي والبهلول بن رشد وعلي بن زياد ودراس بن إسماعيل ويحيى اليحيى وزياد بن عبد الرحمن شبطون والباجي وبن عنان والقرافي وخليل بن إسحق وابن عرفة والبرزولي وابن عباد وأحمد بن قاسم الفاسي وأبو مطرف المالقي وابن الحاجب وابن عاشر وماء العينين وعلي بن عباس وابن عربي. كل رموز الفقه المالكي المغاربي ومختصراتهم الفقهية مثل مختصر خليل ومختصر ابن عاشر وغيرهما هي التي شادت صرح الفقه المالكي في السودان.. فضلاً عن القراءات المشتركة للقرآن الكريم مثل قراءة ورش، أو الطرق الصوفية وأهمها الطريقة التيجانية ومؤسسها الشيخ أحمد التيجاني الذي يرقد في ضريحه الأشهر في فاس المغربية وهو مزار لأتباعه من كل أرجاء الدنيا. وعبر التاريخ الطويل وحتى اليوم ظلت هذه الصلة قائمة بين السودان وبلاد المغرب، لم تنفصم ولم تنقطع.. وغداً نواصل --- الرجاء إرسال التعليقات علي البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.