شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    اردول: افتتاح مكتب ولاية الخرطوم بضاحية شرق النيل    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    المريخ يكرم القائم بالأعمال و شخصيات ومؤسسات موريتانية تقديرًا لحسن الضيافة    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    خطوة مثيرة لمصابي ميليشيا الدعم السريع    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    برمجة دوري ربك بعد الفصل في الشكاوي    مجلس إدارة جديد لنادي الرابطة كوستي    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالصورة.. السلطانة هدى عربي تخطف الأضواء بإطلالة مميزة مع والدتها    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    شاهد بالصورة.. السلطانة هدى عربي تخطف الأضواء بإطلالة مميزة مع والدتها    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    "مصر وسوريا".. إدارة ترامب تدرس إضافة 36 دولة إلى قائمة حظر السفر بينها دول عربية    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    وصول 335 من المبعدين لدنقلا جراء أحداث منطقة المثلث الحدودية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    كيف أدخلت إسرائيل المسيرات إلى قلب إيران؟    ترامب يبلغ نتنياهو باحتمال انضمام أمريكا إلى العملية العسكرية ضد إيران    خلال ساعات.. مهمة منتظرة لمدرب المريخ    مدرب المريخ يصل الي القاهرة    تنفيذ حكم إعدام في السعودية يثير جدلاً واسعًا    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    معركة جديدة بين ليفربول وبايرن بسبب صلاح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    تفاصيل اللحظات الأخيرة لأستاذ جامعي سعودي قتله عامل توصيل مصري    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    مسؤول سوداني يطلق دعوة للتجار بشأن الأضحية    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    علامات خفية لنقص المغنيسيوم.. لا تتجاهلها    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأثر «السودانيون» بالإنتاج العلمي المغاربي في جانبه الفقهي أو الصوفي
«ملامح من العلاقات الثقافية بين المغرب والسودان منذ القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر» (1)
نشر في الصحافة يوم 07 - 07 - 2010

قدم هذا البحث في محاضرة بناءً على دعوة من معهد الدراسات الإفريقية جامعة محمد الخامس «الرباط» المملكة المغربية، وقدم موجزاً لها في محاضرة بمجمع اللغة العربية. وقد نشرت في كتيب بجامعة الملك محمد الخامس في الرباط.
مدخل
الوشائج السودانية المغربية ممعنة في القدم، وربما امتدت هذه الصلات وترسخت جذورها قبل المد الإسلامي في القرن السابع الميلادي، فمن الراجح أن سكان المغرب الأصليين من البربر في الشمال الأفريقي يماثلون النوبه والبجه من سكان سودان وادي النيل القديم عرقاً ولغة. فالنوبه والبربر ينتمون إلى شعب البحر الأبيض المتوسط الأسمر Brown Mediterranean Race بينما تنسب لغتا البجه والبربر إلى المجموعة الكوشية. إلا أن التواصل الحق بدأ بعد ظهور الإسلام. ففي منتصف القرن السابع الميلادي كانت موجة الفتوحات العربية الإسلامية الأولى قد بلغت كلاً من دنقلا في سودان وادي النيل وساحل المحيط الأطلسي. وفي زمن وجيز امتدت الحضارة الإسلامية، وارفة الظلال، من أواسط آسيا عبر الشمال الأفريقي حتى جبال البرانس في أوربا، وأثَّرت تلك الحضارة على أجزاء كبيرة من أفريقيا وصبغتها بطابعها.(1)
كان دخول النفوذ الإسلامي إلى أفريقيا استهلالاً لصفحة جديدة في العلائق الثقافية بين العرب وجيرانهم الأفارقة، وتمهيداً لظهور نقلة نوعية كبيرة في تاريخ ذلك التواصل الثقافي حيث أصبح الإسلام عماد الثقافة العربية، وأضحت اللغة العربية مستودع العقيدة الإسلامية، وصار الحرف العربي وعاء لتلك الثقافة.(2) وفي إطار الحضارة الإسلامية ظهر مصطلحا بلاد السودان والمغرب.
إن أول ما يلاحظه الباحث في موضوع العلاقات المغاربية السودانية قلة ما دوِّن، وذلك بسبب ضعف التواصل في مبدأ الأمر خاصة وأن المنطقتين لم تكونا متجاورتين جغرافياً، رغم أنهما كانتا تعيشان في ظل إطار حضاري ينطلق من مرجعية موحاة ثابتة هي القرآن الكريم والسنة المطهَّرة، وكان ذلك يعطيهما وحدة السمت والصبغة والتوجه على اختلاف بيئاتها وتباين مناطقها وتباعد عصورها.(3)
تحاول هذه الورقة أن تتناول العلاقات الثقافية بين سودان وادي النيل والمغرب على ضوء معطيات التواصل التاريخي البشري والفكري بين المنطقتين والتي يمكن تحديدها بعناصر: التعرف المغاربي على سودان وادي النيل، وهو ما تم عن طريق الرحَّالة المغاربيين الذين زاروا سودان وادي النيل وسجَّلوا انطباعاتهم وملاحظاتهم حوله. والهجرات المغاربية لسودان وادي النيل التي كان من نتائجها الوجود المغربي المؤثر في السودان. وكذلك دور العلماء المغاربة في نشر المذهب المالكي الذي أصبح عنصر تلاقٍ بين المنطقتين، وكذلك انتشار علوم القرآن والقراءات والتجويد. ولعل التواصل الأكبر بين المنطقتين تم عن طريق انتشار الطرق الصوفية، وانتقال العلماء والشيوخ بين المنطقتين، وفي ما نسوقه من أمثلة لهذا التواصل ما يعكس الفارق بين المنطقتين في دخول الإسلام ومن ثم نقله والدعوة إليه. ولم يقع بين أيدينا إلا نموذج واحد لعالم صوفي سوداني نشر العلم في المغرب في حين نجد أمثلة كثيرة للعلماء والصوفيين المغاربة في السودان، ولعل ذلك مرده إلى طبيعة المصادر المتوافرة في المكتبة السودانية، وربما نجد في المكتبات المغاربية نماذج أخرى لدور العلماء السودانيين والصوفيين في المغرب. وفي القرن التاسع عشر ومع دخول الجيش التركي السودان وفي معيته الجنود والعلماء والموظفون المغاربة، شكَّل هؤلاء أساس الحوار الثقافي بين المنطقتين، كما أن في رسائل الإمام المهدي للمغرب فيما بعد صدى لهذه العلاقات التي جمعت بينهما.(4)
تمهيد
ولعله من المناسب هنا أن نمهِد للعلاقات الثقافية السودانية- المغاربية بنبذة عن دخول الإسلام وانتشاره في المنطقتين باعتباره العامل الرئيس للتواصل بين المنطقتين.
أولاً: انتشار الإسلام في المغرب: يشير المغرب إلى الشمال الأفريقي جغرافياً، وهي المنطقة الواقعة غرب مصر، وتشمل ليبيا وبلاد إفريقية (تونس) والجزائر ومُرّاكش (المغرب وموريتانيا)، والتي غلب عليها العرب الوافدون من المشرق. وتستعمل كلمة «المغارب» هنا للدلالة على المنطقة كلها، بينما يشير مصطلح المغرب الأقصى للمغرب الحالي وموريتانيا.
لقد وجد العرب في الشمال الأفريقي، الذي يغلب عليه الجفاف وتنتشر فيه الصحاري، بيئة مناسبة للاستقرار فاختلط المهاجرون مع البربر وغلب الإسلام عليهم كما اتخذوا العربية لغة لهم. وأدى كل ذلك إلى نمو علاقات علمية وروحية مع ديار الإسلام المركزية ومراكز الإشعاع الديني فيه مثل مكة المكرمة، والمدينة المنورة، ودمشق، وبغداد، والقاهرة، فتواصلت رحلات الحجيج والعلماء والمتصوفة والطلاب من دويلات المغرب الجديدة ومؤسسات العلوم الإسلامية، التي ازدهرت في القيروان وأمثالها، إلى المشرق.
وقد كتبت الغلبة للثقافة العربية في المغرب بعد تغربة بني هلال وبني سليم وغيرهم في القرن الحادي عشر الميلادي. وفي هذا الإقليم كتب النصر للمذهب المالكي، الذي كان أول ظهوره في المدينة المنورة غير أن بلاد المغرب شكلت التربة الخصبة التي طوَّرته، وكان لمدارس القيروان، والقرويين، وقرطبة في ما بين القرن التاسع والقرن الحادي عشر الميلاديين الدور الرائد في ذلك الإنجاز. وصحب انتشار المذهب المالكي وتغلغل الثقافة العربية الإسلامية بين الوطنيين ظهور جيل جديد من البربر حملوا راية الإسلام العلمية والدعوية والاقتصادية معلنين بذلك بداية عهد جديد للثقافة الإسلامية المغاربية المتميزة عن ثقافة أهل المشرق: فقهاً واجتهاداً وإبداعاً في مختلف ضروب العلم والثقافة والآداب والفنون.(5)
تقلص نفوذ المشرق العربي برحيل الفاطميين شرقاً نحو مصر وقيام حكومات من البربر مثل الزيريين في تونس والحماديين في الجزائر والمرابطين في المغرب (الأقصى). وقد حقق المرابطون خلال القرن الحادي عشر الميلادي نجاحاً دينياً وسياسياً كبيرين في المغرب والأندلس وبلاد السودان المجاورة لهما من جهة الجنوب حتى تخوم السواحل الغربية الجنوبية للقارة الإفريقية. وقد أقام المغاربة، على حد تعبير جون هنويك: «إمبراطورية مالكية المذهب ذات نفوذ سياسي قوي في الجناح الغربي من العالم الإسلامي». وتعزز موقف المغرب العلمي خلال القرن الثالث عشر وما بعده، مما حمله إليه علماؤه المترددون على مراكز العلم في المشرق الإسلامي العربي، والمهاجرون المورسكيون من جراء حروب الاسترداد المسيحية بالأندلس La reconquista .(6)
وكما يتوقع فقد تأثرت بلاد السودان الغربية بهذه النجاحات العلمية الباهرة عبر التواصل التجاري الاقتصادي فقد كان للمغاربة مساهمة فعاَّلة في التجارة الصحراوية وفي نشر الإسلام المالكي.
ثانياً: انتشار الإسلام في السودان: أطلق الجغرافيون العرب اسم السودان على الشعوب السوداء (أو شبه السوداء) التي تقطن منطقة السافنا، الواقعة جنوب الصحراء وشمال مقدمة الغابات الاستوائية، وتحد تلك المنطقة شرقاً بالبحر الأحمر وغرباً بالمحيط الأطلنطي، وتنحصر بلاد السودان هذه بين خطي عرض 11ْ و17ْ شمال. ومن الشعوب التي تسكنها النوبه، والبجه، والفور، والزغاوة، والبرنو، والهوسا، ومواطنو مالي وسنغي، والتكرور، والفولاني. وتقسم بلاد السودان أكاديمياً إلى قسمين أولاً بلاد السودان الشرقي، وتشمل ديار سودان وادي النيل بما فيها دارفور. وثانياً بلاد السودان الغربي وتشمل كل الأقطار الواقعة غرب دارفور حتى السنغامبيا، ويعرف هذا الجزء حديثاً بأفريقيا الغربية.
ترك انتشار الإسلام آثار عميقة في نفوس «السودانيين»، كما عزز مكانة الإسلام والمسلمين الوافدين بينهم مما مهَّد لنشر الطرق الصوفية خاصة القادرية والشاذلية والتجانية. وكانت مراكز الإشعاع الإسلامي التي ظهرت في تلك المناطق مثل تمبكت (تمبكتو) وغاو (Gao) وجني ونياني وكنو وربما أجزاء من مملكة كانم امتداداً لمراكز الثقافة المغاربية التي أشرنا إليها.(7)
ويعود سند كثير من العلماء «السودانيين» والمتصوفة في غرب أفريقيا للعلماء المغاربة، فقد تأثر «السودانيون» بالإنتاج العلمي المغاربي سواء في جانبه الفقهي أو الصوفي. ولعل خير مثال لذلك الشيخ أحمد بابا التنبكتي وعثمان بن فودي اللذين أثريّا المكتبة العربية الإسلامية بجلائل المؤلفات. ولا أبالغ إذا قلت أن بلاد السودان الغربية، كانت من شدة تأثرها بالثقافة الإسلامية العربية المغاربية امتداداً طبيعياً لها، خاصةً في ما أفرزته من تأثير على أجزاء من بلاد السودان الشرقية.
كان انتشار الإسلام والثقافة العربية في بلاد السودان الشرقية، والتي اشتهرت بعد القرن التاسع عشر باسم السودان وعرفت أكاديمياً بسودان وادي النيل، بطيئاً ولم تتبلور آثاره إلا بعد مضي نحو سبعة قرون من إبرام معاهدة البقط (1-652م). وفي يسر وبطء تسربت بواكير العقيدة الإسلامية والثقافة العربية على يد التجار والمهاجرين العرب وجُلَّهم من البدو. وقد صحب ذلك التوغل نشاط اقتصادي مكثف في أرض المعدن، حيث مناجم الذهب والزمرد في الصحراء الشرقية، وصحبه نشاط تجاري جم. وتبع ذلك دخول البدو في أعداد كبيرة من صعيد مصر بعد أن ضاقت الحياة بهم وثاروا في وجه حكامهم المماليك الأتراك خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وعند سقوط مملكة المقرة المسيحية عام 1317م وانتقال الحكم إلى نوبه مسلمين مستعربين، تدفق العرب في أعداد كبيرة دون رقيب حتى بلغوا كردفان ودارفور، ولما زاد عددهم وقويت شوكتهم قضوا على مملكة علوة المسيحية في أواسط القرن الخامس عشر.
كان دخول العرب في أعداد كبيرة هو العامل الأساس في نشر الإسلام وغلبت الثقافة العربية على البلاد إذ اختلط البدو بالسكان الوطنيين وصاهروهم وصبغوا البلاد بثقافتهم ومنحوهم اللغة العربية، واعتنق المولَّدون دين الآباء وتمثلوا نسبهم وثقافتهم العربية، ولم تكتمل ظاهرة الأسلمة والاستعراب إلا بعد قيام السلطنات الإسلامية: فعند قيام مملكة العبداللاَّب ( 1450- 1820م) وسلطنات الفونج (1504-1821م) وتقلي (1570-1827م) والفور(1650-1874، 1898-1916م) تدفق العلماء وشيوخ الطرق الصوفية من مصر والحجاز والمغرب مساهمين في تجديد تعاليم الإسلام بطريقة أشمل.(8)
وحقيقة الأمر أن درجة انتشار تعاليم الإسلام في تلك المرحلة كانت محدودة كماً وكيفاً، خاصة وأن الرواد الأوائل من الدعاة، وجُلَّهم من التجار والبدو، كانوا ممن تنقصهم الدراية الدقيقة بالفقه الإسلامي. وقد شارك هاتين الفئتين بعض العلماء والمتصوفة مثل غلام الله بن عائد اليمنى الذي وفد إلى دنقلا من اليمن في النصف الثاني من القرن الرابع عشر. ويروى عنه أنه قرر الإقامة بها لأنها كانت «في غاية من الحيرة الشديدة والضلالة لعدم وجود القرآن والعلماء بها. فلما حلَّ فيها عمَّر المساجد وقرأ القرآن وعلَّم العلوم مباشرة لأولاده وتلامذته ولأولاد المسلمين».(9) كما قدم بعد قرن من الزمان الشيخ حمد أبو دُنَّانة صهر الشيخ عبد الله بن محمد بن سليمان الجزولى مؤسس الطريقة الشاذلية بالمغرب. واستقر في قرية سقادي الواقعة غرب المحمية، حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه تعاليم النصرانية في حالة انحسار بعد أن وهنت الكنيسة وتفاقمت الهجرات العربية.(10)
وعند قيام سلطنة الفونج في مطلع القرن السادس عشر أكَّد بن ضيف الله هذه الصورة القاتمة للوضع الدينى بقوله: «ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم أو قرآن ويقال أن الرجل كان يطلق المرأة ويتزوجها غيره فى نهارها من غير عدة حتى قدم الشيخ محمود العركى وعلم الناس العدة..».(11)
وفي أول النصف الثاني من القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) قدم الشيخ إبراهيم البولاد من مصر إلى دار الشايقية ودرس فيها العلم: خليل والرسالة وانتشر علم الفقه في الجزيرة. ثم بعد ذلك قدم الشيخ تاج الدين البهاري من بغداد وأدخل الطريقة الصوفية في دار الفونج ثم قدم التلمساني المغربي علي الشيخ ولد عيسى سوار الدهب وسلَّكه طريق القوم، وعلَّمه علم الكلام وعلوم القرآن من تجويد وروايات ونحوها، وانتشر علم التوحيد والتجويد في الجزيرة».(12)
فحين وطَّد الفونج أركان ملكهم توافد عليهم رجال الدين بتشجيع من الملوك، وخرج السودانيون طلباً للعلم في مصر والحجاز. وبانفتاح السودان على المجتمعات الإسلامية في المشرق والمغرب، وازدياد عدد رجال الدين من الفقهاء والمتصوفة بدأت المرحلة الثانية في مسيرة انتشار الإسلام وعملية التثاقف والتلاقح التي نجمت عن أول التحام بين العرب وشعوب المنطقتين في منتصف القرن السابع الميلادي.
يتضح من هذا التمهيد أن المنطقتين، السودان والمغرب محور هذه الدراسة، لم يشهدا تطوراً «متوازياً ومتوازناً» في تمثلهما للثقافة العربية الإسلامية والتعبير عنها فكراً وتطبيقاً. فقد كانت الديار المغاربية عامة، وبلاد المغرب الأقصى خاصة، وهو قلب هذا التواصل، أكثر انفعالاً بتعاليم الإسلام وتطويراً لفكرها والتعبير عنها بإنتاج ثرّ. وكان أثر ذلك النشاط الوافر كبيراً على بلاد السودان الغربية، ففوق المساهمة المغاربية الفعَّالة في التجارة الصحراوية، ونشر تعاليم الإسلام في تلك السهوب، والريادة في تأسيس دور العلم، امتد ذلك الأثر شرقاً، خاصة عندما أضحى التصوف ظاهرة في الفضاء الإسلامي، وبلغ بلاد الهوسا ومملكة كانم وأصبح السودان الأوسط مركزاً للاتصال الاقتصادي ونقطة هامة في طريق الحج عبر السودان.
ولعل من نتائج سد باب الأندلس في وجه العرب والمسلمين، وانتهاء مسئولية المغرب نحوه، اتجاه المغاربة، ومن عززهم من الأندلسيين، نحو بلاد السودان في عهد المنصور السعدي، وكان هذا التوجه هو الذي مزج بلاد المغرب ببلدان السودان مزجاً حقيقياً وأثمر تواصلاً ثقافياً غنياً في مرحلة التأليف عموماً، وحركة التأليف التاريخي خصوصاً، ومنه تسرَّب قدر كبير من تلك المكونات الثقافية تدريجياً حتى بلغت سودان وادي النيل. وفوق هذا كله فإن مراكز الإشعاع الإسلامي المغاربي وما أنتجه علماؤها من مؤلفات رفيعة في شتى فروع المعرفة الإسلامية يجعلها في مصاف مثيلاتها من دور العلم في المشرق وأن تبذها في بعض المجالات.(13)
أما أداء السودان فقد كان محدوداً في تمثله للثقافة العربية الإسلامية إلى حد ما، ولم تضرب التعاليم الإسلامية بجذور عميقة إلا بعد مطلع القرن السادس عشر. وعليه فلا غرابة إن كان لبلدان المغرب، بعد أن تهيأت لها نهضة علمية رفيعة ووفرة في الإنتاج المعرفي، دور رائد في دعم التواصل بين المنطقتين وإخصاب العلاقات المغاربية السودانية عبر هجرة القبائل وفقهاء المذهب المالكي، وعلماء التجويد والقراءات وشيوخ الطرق الصوفية. وفي جٌلَّ هذه المحاولات كان السودان متلقياً إلا في حالة عالم صوفي سوداني من أتباع الطريقة القادرية العركية، وهو ما سنوليه حقه في موضعه.
معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية
جامعة الخرطوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.