بالرغم من أني حتى وقت قريب بل قبل أيام قليلة كنتُ أشكك في موقف أعدى أعداء السودان باقان أموم وأقول إنه لن يغيِّر موقفه الإستراتيجي حول إقامة (مشروع السودان الجديد) أو (تحرير السودان) المُعبَّر عنه في اسم الحركة التي تحكم دولة الجنوب إلا أن تصريحاً صدر عن الرجل ونُشر في «الإنتباهة» كشف عن تغيير حقيقي لا أقول إستراتيجي في وجهة نظر الرجل حول العلاقة بين السودان وجنوب السودان وإنما تغيير تكتيكي يمكن أن يتحوَّل إلى إستراتيجي إذا أحسنّا التعامل مع ملف العلاقة مع الجنوب. باقان قال في تصريح بُثَّ عبر تلفزيون دولة الجنوب إن صفقة طي الخلاف حول منطقة 41 ميل تمت الموافقة عليها من قِبل الجنوب (لأن السودان وضعها شرطاً للموافقة على استئناف ضخ النفط عبر السودان إلى أسواق العالم)!! معلوم أن معارضة شرسة نشبت في شمال بحر الغزال للاتفاق حول منطقة 41 ميل وأن تظاهرات صاخبة اشتعلت في أويل وواو ضد الاتفاق وأن حشوداً حاصرت برلمان الجنوب في جوبا احتجاجاً على تمرير الاتفاق على منطقة 41 ميل التي يزعم دينكا ملوال أنها أرضهم لدرجة أن سلفا كير أرسل تطمينات للدينكا أنه في المدى البعيد لن يتخلَّى عنها وأن الاتفاق إجراء مؤقت أي إلى حين انجلاء الأزمة في جنوب السودان. إذن فإن استخدام الكروت التي لا نُحسن التعامل معها وكثيراً ما مزقناها ورميناها في صندوق القمامة.. أقول إن استخدام الكروت يُجدي وما اعتراف باقان بأنهم في حاجة إلى النفط الذي دفعوا في مقابله مهراً غالياً ألّب عليهم شعبَهم إلا دليل على ما أقول بل إن المهر الأغلى بالنسبة لباقان ليس 41 ميل إنما أن ينحني للعاصفة ويجنح للسلم ويتمسكن لكن حَذَارِ من الاطمئنان لباقان فإنه لا يتمسْكن إلا إلى حين أو إلى أن تنصلح الأمور ثم يعود إلى جِنّه القديم وسأعود إلى مناقشة هذه النقطة وما إذا كان موقف باقان التكتيكي يعني أنه تخلَّى عن تعاطفه مع قطاع الشمال الذي يعمل على إقامة مشروع السودان الجديد في السودان أو قل لتحرير السودان. ما قاله باقان حول اضطرارهم للقبول بصفقة 41 ميل أكده سلفا كير أمام البرلمان لإقناعه بالموافقة على الاتفاقيات فقد قال الرجل إنهم لن يتخلَّوا عن (حفرة الناس وكافي كنجي وجودة والمقينص بل ولن يتخلَّوا عن هجليج والعديد من الأراضي الأخرى التي هي جزء من تاريخ جنوب السودان) كما تحدَّث عن منطقة 41 ميل التي قال إنها تابعة لدينكا ملوال وقال إنهم (لن يتخلوا عن تلك المناطق لكنها مجرد خارطة طريق لإيجاد وسيلة لحل النزاع بين البلدين) ولعل أهم ما قال وفقاً للخبر الذي أوردته سودان تربيون إن (غرض المحادثات كان السماح لاستئناف ضخ النفط)!!. إذن فإن الحاجة إلى النفط (والزنقة) التي تعرضوا لها هي التي حملتهم على هذا الجنوح (المؤقَّت) للسلم.. أقول المؤقت لأن سلفا كير وباقان أعلنا أنهم مضطرون للاتفاق وأنهم لن يتخلوا عن أراضيهم وسبق لباقان أن تحدث عن تبعية هجليج للجنوب وهذا ما ينبغي أن يضع له السودان ألف حساب. معلوم أن كل التقارير الدولية والغربية تحدثت عن المجاعة التي ضربت جنوب السودان خلال الأشهر الماضية بل إن البنك الدولي تنبأ بانهيار الجنوب في أغسطس أو سبتمبر الماضيين جراء الأزمة المالية والمعيشية التي يعيشُها وما كان للبرلمان الجنوبي أن يمرِّر الاتفاقيات لولا أن سلفا كير أكَّد لأعضائه أنه لن يتخلَّى عن الأرض المُتنازَع عليها وأنه اضطرّ تكتيكياً للموافقة على الاتفاقيات. لستُ في حاجة إلى أن أكرِّر أن الجنوب كان على شفا الانهيار فقد عانى من مجاعة طاحنة بعد أن ارتفعت الأسعار بصورة جنونية بسبب إغلاق الحدود وبلغ سعر البصلة خمسة جنيهات (بالجديد) قبل فتح الحدود في الأيام القليلة الماضية بعد توقيع اتفاق التعاون بين السودان وجنوب السودان وما حديث والي سنار أحمد عباس إلا دليلاً ساطعاً على الحالة التي وصلتها الأوضاع في جنوب السودان فقد قال إن ولايته شهدت تدفقات للجنوبيين في موسم حصاد السمسم وعملوا في عمليات الحصاد بنسبة «06%» وبأسعار معقولة وما لم يقله الوالي إن النازحين كانوا على استعداد للعمل مقابل سد الرمق فقط.. أما الحديث عن أنهم (أنقذوا موسم الحصاد) فهو كلام سياسة من الصحيفة التي أرادت أن تُعطي الأمر بُعداً سياسياً فالجنوبيون جاءت بهم الحاجة ولم يأتوا لتقديم المساعدة!! المهم هو أن الضائقة التي بلغت من الجنوب مبلغاً عظيماً بعد سياسة Shoot to kill التي أطلقها الأستاذ علي عثمان آتت أكلها وكشفت عن أهمية إجادة استخدام كروت الضغط فقد وعى باقان وسلفا الدرس خاصةً بعد أن تبيَّن لهما أن وعود أمريكا وأوروبا لا تعدو أن تكون مجرد سراب لا ينبغي أن يُعَّول عليه. قبلنا على مضض تقديم غصن الزيتون من باب إبداء حسن النية وذلك بفتح الحدود أمام التجارة حتى يشعر الجنوبيون حكومة وشعباً بفائدة السلام تماماً كما شعرت تشاد وهي تجني ثمار التطبيع ازدهاراً نسبياً على قراها الحدودية التي شهدت بعض مشروعات التنمية التي قدَّمها السودان لكن علينا أن نُحسن الإمساك بخيوط اللعبة بدلاً من الهرولة والكبكبة والانبراشة التي قد تخفِّف من الضغط بما يعيد حليمة إلى عادتها القديمة وباقان إلى تمرده ولؤمه القديم وإستراتيجيته التي تخلَّى عنها إلى حين ولن يتركها أو يمزقها قبل أن يلج الجمل في سم الخياط.. الأمر يحتاج إلى رجل واحد يُمسك بملف العلاقة ويعرف متى يضغط ومتى يُرخي.. رجل يُشبه غازي أو كمال عبيد لو كان قومي يعلمون لا رجل ما قال «لا» قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاءه نعم!! الآن وقد انكشف أن الجنوب يئنّ تحت وطأة الحاجة يجدر بنا أن نعرف نقاط ضعفهم وليس أهم من قضية فك الارتباط بقطاع الشمال والتي ينبغي أن تكون من الثوابت ولا ينبغي أن يُقدَّم ملف آخر عليها وإذا كنا قد طردنا جيمس قاي (كمن دفق مويته على الرهاب) في وقت كان عرمان يبرطع فيه في جوبا ويعقد المؤتمرات الصحفية فإن الوقت قد حان الآن لطرد هذا الرويبضة العميل ورفاقه الحلو وبقية متمردي تحالف كاودا من متمردي دارفور ومتمردي الأحزاب الطائفية (الأمة القومي والاتحادي الأصل) كما ينبغي أن يتم التحقُّق من تسريح الفرقتين التاسعة والعاشرة بالطريقة التي قدَّمها كمال عبيد إلى ثابو أمبيكي وليس بطريقة (مسجد الضرار) أحمد هارون!! باقان الذي أعلم أن أشواقه مع قطاع الشمال لم تخبُ ولن تخبوَ يسرُّه أن يستمر قطاع الشمال في العمل من أجل مشروعه (التحريري) بعيداً عن إحراجه بعد أن فشلت محاولة تبرُّئه من قطاع الشمال عندما قدم مرافعة لأمبيكي قال فيها إنهم لم يعُد لهم ارتباط بالقطاع وهو ما دحضه كمال عبيد بالوثائق والوقائع. أكرِّر أنه لا البترول ولا الحريات الأربع ولا غيرهما ينبغي أن تحتل أولوية إنما فك الارتباط وإنهاء التمرد فذلك سيكون المكسب الأكبر للسودان خاصة وأن ذلك سيكون تكفيراً عن خطأ ما قبل الاستفتاء وقبل الانفصال حيث كان ينبغي أن يتم انسحاب القوات المسلحة وقوات الدفاع الشعبي بالتزامن بدلاً من (الدقسة) والخطأ التاريخي الذي نتجرَّع اليوم سمَّه الزعاف. --- الرجاء إرسال التعليقات علي البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.