تظل الصحة محور اهتمام الإنسان والحكومات والشركات. ويظل التحدي في الارتقاء بالخدمات الطبية باقياً ومتجدداً ليس فقط لتنوع الأمراض وتعقد الإصابات وانتشار الوبائيات، بل لارتفاع سقف طموحات المرضى للوصول إلى شفاء عاجل وبأيسر الطرق. ومع تطور معينات التشخيص وسبل العلاج والتقدم المذهل في البحث العلمي، أصبح ممكناً وسهلاً ما كان مستعصياً ومستحيلاً بالأمس. ونجاح السياسات الصحية يكمن في التخطيط الاستراتيجي السليم الذي يؤدي إلى إدارة صحية فاعلة تضمن عدالة توزيع الخدمة الصحية بين المواطنين. الإصلاح في الخدمة الصحية يبدأ من المفهوم الصحيح لما يجب أن يُتبع وعدالة التوزيع لا تعني التوزيع بالتساوي، بل تركيز الخدمات حسب احتياجات المواطنين خاصة بعيداً عن المركز من الذين لا يجدون مقدرة لتحريك الآلة السياسية بالمظاهرات والوقفات الاحتجاجية وقفل الطرقات. وتقديم خدمة تأخذ في الاعتبار احتياجات معظم المواطنين وتوفير قدر كبير من العدالة الاجتماعية. وهذا يقضي بالضرورة أن يُعاد تنظيم الخدمات وتقديمها ليكون محور الاهتمام هو المريض الذي تُنقل له الخدمة بمراكزها ومستشفياتها وأطبائها وكوادرها، فالمواطنون بلجانهم الشعبية وقيادتهم الدينية والسياسية هم الذين يحددون مكان المركز الصحي، بل يرسمون احتياجاتهم الصحية ونوع الخدمة الطبية التي توفر لهم حياة كريمة خالية من المرض، هذا هو مفهوم الرعاية الصحية الأولية، وهو مفهوم قديم ظل حياً ومتجدداً حتى بعد تطور المعرفة الطبية. مضت ستون عاماً وأكثر على قيام هيئة الصحة العالمية كرائد في تقديم الصحة في العالم وفق أسس تضمن حياة اجتماعية وسياسية مستقرة ومضت أربع وثلاثون عاماً على إجماع العالم على مفهوم الرعاية الصحية الأولية، وحتى في السودان فإن مفهوم الرعاية الصحية الأولية كان معمولاً به ومؤمّناً عليه رغم ضعف التنفيذ واهمال هذا المفهوم العادل في توزيع الخدمات أضاع النسيج الاجتماعي المتماسك وأربك الوضع السياسي ورفع الأمراض قليلة الحدوث إلى قائمة اهتمام السياسيين وحوّل أمراض الأكثرية إلى حالة عدم الاهتمام. وقد فطنت الدول إلى ضرورة العودة إلى المفهوم الأساسي للعناية الصحية الأولية ليس فقط في دول العالم الثالث، بل حتى في أوربا وعلى وجه التحديد بريطانيا التي عُرفت بأقوى نظام صحي مبني على طبيب الأسرة (أساس الرعاية الصحية الأولية)، وقد حولت بريطانيا سياستها الصحية لتقوم على أساس أطباء الأسرة، ومكنت لهم حتى أصبحوا هم الذين يسيرون عمل المستشفيات التخصصية ويحددون أهميتها وماهيتها على ضوء النظر في الصرف على الصحة ليغطي بما هو متاح احتياجات أكبر شريحة من المحتاجين للعلاج. ومن منظور علمي ومنطقي: أن تصل الخدمة للمريض وهو في بداية العلّة، وأن نسهل له الحصول على الإرشاد الطبي مبكراً لأنفع له وأوفر اقتصادياً من أن نتركه حتى يستفحل فيه المرض ويصبح وصوله للمستشفى التخصصي قليل الفائدة. وبعد أعوام عديدة من عدم التزام الدول بتطبيق الرعاية الصحية الأولية، عادت لتؤكد في مؤتمر بواقادوقو (دولة بوركينا فاسو) قبل أربعة أعوام أهمية العودة لسياسة الرعاية الأولية لضمان عدالة توزيع الخدمات الطبية بعد أن فشلت السياسة الصحية المبنية على المستشفيات التخصصية، ومما أضعف المفهوم الصحي الأولي هو مقدرة المستشفيات التخصصية على إحداث أكبر ضجيج لما تملكه من مقدرات بشرية وقدرة على جذب الأضواء رغم قلة المستفيدين بهذه الخدمات. ويظل الأثر النفسي عالياً لعمليات زراعة الكُلي وعمليات فك ارتباط التصاق الأجنة وغيرها رغم أهميتها إلا أنها نادرة وتجذب الإعلام وتدعو للالتفات. وأمام إزدواجية إدارة الخدمات الطبية في البلد الواحد أو الإقليم الواحد، لا يمكن أن تُنفّذ خُطة صحية تؤدي إلى أهداف واحدة محددة جراء تضارب السياسات الصحية، وكان واجباً أن تكون الإدارة الصحية موحدة تعمل في تناغم حتى لا تُهمل أساسيات الواجب الطبي تجاه المحتاجين. يظل العمل التخصصي جاذباً للأطباء ذوي الوزن الثقيل اجتماعياً وسياسياً. إهمال السياسات الصحية للمراكز الطبية الطرفية في السابق أدى إلى عزوف الأطباء عن العمل فيها، وبتحول هذه المراكز إلى وحدات طبية ملتصقة بالأسرة متكاملة مع المجتمع والشعبيين، فيها كل الخدمات الأساسية من اختصاصيين ومعينات للتشخيص من أشعة وموجات صوتية ومعمل متقدم وأجهزة رسم قلب مع الخدمات الأساسية من رعاية الحمّل والتحصين والتغذية غيّر مفهوم المرضى القديم بازدراء المراكز الصحية. ولقد أصبح العاملون في المراكز الصحية اليوم من الاختصاصيين في طب الأسرة وهم في مرتبة اختصاصي المستشفيات وفرصهم للترقي والعلو الأكاديمي أعلى من رصفائهم في المستشفيات، مما جذب النابهين من الأطباء للعمل في المراكز الصحية لنيل هذا التخصص. المواطنون الذين يعيشون تجربة إنعاش المراكز الصحية هذه الأيام يعلمون تماماً بما يقدمه العاملون فيها لخدمة المواطن، ويتفاعلون معها بل ويحددون سياسة المركز ويقومون بالإشراف عليه تماماً كما يشرفون على مسجد حيّهم أو قريتهم. نحتاج إلى قاعدة أكبر من الذين يملكون التأثير على الآخرين من الصحافيين والكتاب وقادة الفكر أن يبحروا مع هذا التيار الذي فيه منفعة للمواطن. وقد بدأت هذه السياسة تؤتي أُكلها نصراً للضعفاء والمحتاجين، فنقف اليوم أمام إحصاءات مبشرة، فالمراكز الصحية تقدم الخدمة الطبية ل «75%» من جملة من يطلبها في مؤسسات ولاية الخرطوم، ومع توسع مظلة التأمين الصحي نأمل أن يستفيد عدد أكبر من المواطنين من خدمات المراكز الصحية، وألا يضطر للذهاب للمستشفيات إلا ذوو الحاجة الحقيقية.