أخشى أن يتحول السلفيون إلى عبء ليس فقط على الثورة المصرية، ولكن على الإسلام ذاته أيضًا. ذلك أن منهم أناسًا يزايدون على غيرهم من المسلمين ويحسبون أنهم الفرقة الناجية الأكثر تدينًا وتطهرًا. ويتصورون أن ذلك يؤهلهم لأن يصبحوا أوصياء على المجتمع. وهم بذلك يسحبون من رصيد الثورة التي رفعت عنهم الإصر والحظر، ويشوهون الإسلام الذي ينسبون أنفسهم إليه، إذ باسمه يروجون للكآبة ويشيعون بين الناس القلق والخوف. هذا الأسبوع تدخّل نفر منهم لمنع حفل غنائي في محافظة المنيا أقامه فريق يضم مسلمين وأقباطًا. بدعوى أنه حفل تبشيري يتوسل بالغناء والموسيقا الذي يحرمونه. حدث ذلك بعد يوم واحد من ظهور مجموعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قرية الزعفران بمحافظة كفر الشيخ، وتوزيعها منشورًا توجيهيًا يتدخل في أزياء الناس وحياتهم الخاصة ويحذر من أنهم سيلجأون إلى تغيير المنكر باليد إذا اضطروا إلى ذلك. وهو ما تزامن مع دعوة بعض السلفيين إلى مليونية جديدة لتطبيق الشريعة بدعوى أن الجمعية التأسيسية للدستور تخلّت عنها. وقبل إطلاق هذه الدعوة بأيام كان لنفر منهم معركة مع الممثلة إلهام شاهين وصلت إلى القضاء، وجاء بعضهم إلى المحكمة حاملاً صورًا لها من فيلم «سوق المتعة» تعزز اتهامهم لها بالترويج للإباحية وقلة الأدب. ثم قرأنا في الصحف أن أحد رموزهم «عرفنا أنه مدير الأكاديمية السلفية بمدينة المنصورة» ألقى خطابًا ضافيًا في التنديد والطعن في أفكارهم وكتاباتهم التي تهين الصحابة وتشين أهل مصر وتحرم الطبخ في الأواني الفخارية! صحيح أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك وأتعس في تونس والجزائر، حيث لجأوا إلى العنف واستخدموا السلاح ضد السلطة وضد معارضيهم. إلا أن ذلك يعد اختلافًا في درجة التعاسة والحمق وليس في نوع أي منهما. من حق أي واحد أن يتساءل عمّا إذا كان أولئك المزايدون والحمقى في مصر جماعة واحدة أم أنهم يمثلون تيارات متباينة داخل المربع السلفي، الذي أصبح يضم أكثر من حزب وأكثر من جبهة وعددًا غير معلوم من الشيوخ أو المراجع الذين يستقطبون الأنصار والمريدين. ولأننا لا نعرف على وجه الدقة طبيعة أو حدود خرائط ذلك المربع، فقد أصبح ما يفعله أي سلفي منسوبًا إلى الجميع. بل منسوبًا إلى الإسلاميين «عنوان الصفحة الأولى بجريدة الشروق يوم الثلاثاء 10/10 كان كالتالي: أمن المنيا يلغي حفلاً غنائيًا بضغوط من الإسلاميين». لقد قيل لي إن الدكتور ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية استنكر تصرف الشباب في المنيا، وقال إنهم ليسوا على دراية بالضوابط الشرعية التي تحكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونشرت الصحف أن الدعوة السلفية تبرأت من مجموعة كفر الشيخ التي نصّبت نفسها راعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال أحد أركان الدعوة السلفية إن الشخص المشتبك مع السيدة إلهام شاهين ليس من السلفيين، وإنهم يتبرأون مما لجأ إليه ويعتبرون الأسلوب الذي اتبعه يفتقر إلى اللياقة ويخل بأبسط مبادئ الموعظة الحسنة والدعوة إلى الله. بقيت عندي ثلاث ملاحظات هي: - إنني استغربت أن تلجأ أجهزة الأمن في محافظة المنيا إلى إلغاء الحفل الغنائي لمجرد اعتراض بعض السلفيين وأعضاء الجماعة الإسلامية عليه. ذلك أن ما أقدم عليه هؤلاء يعد عدوانًا على حريات الناس، وتلك «جناية» من الناحية القانونية، ونص المادة 56 مكرر من قانون العقوبات يعاقب بالسجن كل من أنشأ جماعة أو هيئة استخدمت منع مؤسسات الدولة من ممارسة أعمالها أو قامت بالاعتداء على الحرية الشخصية للمواطن أو غيرها من الحريات والحقوق العامة التي كفلها الدستور والقانون. وهذا الكلام ينطبق أيضًا على الذين حاولوا التحكم في حريات الناس وسلوكياتهم في كفر الشيخ بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنني لم أفهم لماذا استجابت القيادات الأمنية لضغوطهم ولماذا لم تحاسبهم بمقتضى القانون. - إنه من السذاجة أن يفتعل السلفيون أزمة وأن يستنفروا أنصارهم للاحتجاج على عدم ذكر أحكام الشريعة والنص على مرجعية المبادئ وحدها في الدستور. وهي سذاجة تعبر عن طفولة سياسية تصور أصحابها أن تسجيل المصطلح ضامن بحد ذاته لتطبيق الشريعة. في حين أن الجميع يرون دولاً زايدت على غيرها في التمسك بحرفية ونصوص الشريعة حتى طبقت الحدود، لكنها غيبت وأهدرت أهم مبادئها المتمثلة في العدل والحرية والمساواة والحفاظ على كرامة الخلق وغير ذلك من المقاصد. وليس خافيًا على أحد أن إثارة معركة حول المصطلح وحشد مليونية لأجل تغيير الكلمة دون أن يتم التوافق الوطني عليها، يعطل المسيرة ويشتت المجتمع ويفتعل خلافًا وشقاقًا لا لزوم له. إنني أخشى أن يكون منطق اختزال التدين في اللحية والجلباب القصير والمسواك والنقاب، هو نفسه الذي يكمن وراء اختزال تطبيق الشريعة في كلمة أو عبارة توضع في الدستور. ذلك أن الذي يختزل التدين في مظهر لا يستغرب من أن يختزل تطبيق الشريعة في نص مكتوب. - إنني أحذِّر من هوس أغلب السلفيين بالصراع. وأذكر بأن القضية ليست مثارة في مصر من الأساس، رغم ما يقال عن انتساب بضع عشرات إلى المذهب الجعفري. وأذكر بأن أعداء الأمة يستهدفون الجميع ولا يفرقون بين السنة وغيرهم، وأن معركة الأمة الحقيقية هي ضد الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية، أيًا كانت خلافاتنا معهما. إن لدينا وطنًا نريد أن نداوي جراحه لكي يتعافى ويحقق حلمه في التطلع إلى مستقبل أفضل، ولدينا أمة مزقت بما فيه الكفاية، وعلى العقلاء أن يبحثوا كيف يلملموا أشتاتها لا أن يعمقوا جراحها ويجهضوا أحلامها. ومهام من ذلك القبيل تحتاج إلى عقول واعية وقلوب كبيرة، وأرجو أن يظهر من بين السلفيين من يكون قادرًا على حمل الأمانة مع غيرهم من الوطنيين المخلصين، بحيث يغدو جهدهم إضافة إلى رصيد الوطن والأمة وليس خصمًا منه.