ينعقد مؤتمر الحركة الإسلامية هذه المرة ليعيد تأسيسها. بلفظ آخر ليجدِّد أمرها. والتجديد هو من خصائص الدين الحق لأِنَّ اللَّهَ «يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا.» بل إن المؤمن الحريص هو من يجدد نيته ويجوِّد عبادته ويبادر إلى صالح الأعمال كل يوم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم...» والتجديد إنما هو بناء على الصفات الأساسية اللازمة يؤكدها ويكرس بنيانها. وأول ما يجدد من وظائف الحركة الإسلامية وصفاتها اللازمة هو سلطتها الأخلاقية. فهكذا كانت سلطة الأنبياء الذين آتاهم الله «حكما وعلماً»، أي سلطانا معنويًا ينبث من النبوة وحكمتها، قبل أن يترجم إلى سلطان مادي. والسلطان الأخلاقي في شأن الحركة هو شرط وجوب إذا انعدم انعدمت وطاش أمرُها. الحركة مرجعية ضمن مرجعيات إسلامية أخرى في المجتمع، لم يختصّها الله بتكليف من دون طوائف المسلمين لكنها انتدبت نفسها لذلك التكليف مختارة، فحق للناس أن يحاسبوها ويحاسبوا أفرادها بمقتضى ما اختاروه هم لأنفسهم. والحركة لا تنتظر استحقاقاً دنيوياً يميزها به ذلك التكليف، بل هي المرجوة أن تقدم التضحيات وتحترق لتضيء للآخرين. في بيعة العقبة الثانية لم يبايع الأنصار النبي «صلى الله عليه وسلم» على زهرة الدنيا وإنما على «نهكة الأموال وقتل الأشراف.» وفي تجربة سودانية ماثلة وقريبة بايع الإمام المهدي أصحابه على «خراب الدنيا وعمارة الآخرة»، فالتضحيات شأن الدعوات العظيمة برجالها ونسائها. وقد حدث: فقد قدمت الحركة زبدة أبنائها في طريق طويل من المجاهدة والمصابرة؛ والحق يقال قدم السودانيون جميعاً سهمهم من تلك المجاهدات والمصابرة على جبهات متعددة من المعارك العسكرية والسياسية والاقتصادية. وكلاهما حقيق بأن يُكافأ بحسن ذكره والشهادة له. وقد نال كثيرٌ من أبناء الحركة حظوظهم من الدنيا وأمامهم أشواط وعِرة لاكتساب حظوظ الآخرة، فإن الآخرة لهي الحيوان «أي الحياة الحقة» لو كانوا يعلمون. وإن أقبح الدين ما اتُّخذ مطية للدنيا. قال عبد الله بن مسعود: «ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة». من القضايا التي يُنتظر أن تُثار من خلال أعمال المؤتمر القادم هي علاقة الحركة بالسلطة أو الحكومة كما هي موضحة في الدستور المقترح. وقد سال مداد كثير حول جدلية من حكم في العقدين الماضين: الحركة بذاتها ومؤسساتها، أم من حكم هم بعض أبنائها حكموا باسمها؟ بالنسبة لمعظم المراقبين من غير أبناء الحركة هذا جدل بيزنطي، فالعبرة هي بالنتائج لا بالأماني والمزاعم. وربما لن يتاح وقت كافٍ في المؤتمر لجرد حساب الأرباح والخسائر من التجربة القائمة، لكن الذي يجب التوقف لديه هو تحديد علاقة الحركة بالسلطة في المستقبل وتعريفها حتى لا يحكم أحد باجتهاده الخاص ووفق هواه. وأيًا كانت الصيغة العملية التي يتوصل إليها المؤتمر في هذا الشأن فإن أهم ما يجب إثباته هو أن الفكرة هي الأسبق والأبقى أما التعبير السياسي عن الفكرة، بما في ذلك السلطان أي الملك، هو عَرَض قد يزول، بل هو لا محالة زائل. إن أي صيغة علاقة تكرس استتباع الدعوة للحكومة وتجعلها محض رديف لها في وظائفها هي صيغة خاسرة للحكومة والدعوة كليهما، وتجربة لا أُفق لنجاحها لأنها تبني العلاقة بين الاثنين على الشك والريبة والرغبة في الاستحواذ، لا على الثقة والاطمئنان. إن أهم ما ينصر الفكرة ويقوِّي نفوذها هو أن تبقى حرة طليقة، لذلك فإن من أولى ما يجب علينا أن نكرسه في خطابنا هو الدعوة للحرية والطلاقة والسعة. لا الحركة ينبغي أن تكون محض رديف للحكومة، ولا الحكومة، التي ترعى استحقاقات المواطنة لجميع أبناء الوطن الواحد، هي محض جهاز تنظيمي تابع للحركة. إن الحركة، كي ما تبقى فاعلة ومناصِرة للحكومة وللدولة في الإطار الأشمل، ينبغي أن تكون مستقلة، لأنها في الحقيقة محتاجة لأن تكون مستقلة بأجندتها وأولوياتها وطرائقها في العمل. وليس في هذا استدعاء للتناسخ والتشاكس بين الدعوة والسلطان فكلٌّ يعمل في مجاله وعلى شاكلته ويمضيان سوياً إلى مصب واحد، والعلاقة بينهما علاقة تناصر وتعاون وتناصح وتنسيق في ما يجمع بينهما من وظائف. الدعوة يجب أن تبقى حرة طليقة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لأن هذا هو مناط التكليف الذي يصدر عنه الدعاة: «فو الذي نفسي بيدهِ لتأمرنَّ بالمعروفِ، ولتنهونَّ عن المنكرِ، أو ليوشكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عذابًا من عندِهِ، ثم لتدعنهُ، فلا يُستَجابُ لكُم». الدعوة ينبغي أن تكون حرة طليقة لتكون صوتاً للحق لا يُخشى فيه لومة لائم، ولتقول كلمة الحق في الغضب والرضى، ولترد الظالم حين يظلم، فإن الناس كما روى أبوبكر رضي الله عنه «إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقابه.» وأول ماينبغي أن يحققه دستور الحركة ويعززه هو هذه الخصيصة. الحركة سُمِّيت حركة لما تحدثه من حراك في المجتمع الذي تسود فيه، تؤسس عبره مرجعية إسلامية تهدي الأعمال، وتقود المبادرات في المجتمع، وتدير الجدل الحسن حول الفقه والفكر والثقافة والسياسة. الحركة الناجحة كيان يجتذب إليه كل يوم التيارات الفاعلة والحية في المجتمع، كالشباب والنساء والمثقفين والمبدعين، يمضي بهم ومعهم إلى تأسيس واقع أفضل لمجتمعهم وبلدهم. الحركة الفاعلة هي التي تكتشف كل يوم وتوظف أنماطًا جديدة للتنظيم والتواصل تتيحها التقانة الحديثة والشبكة العنكبوتية. أنماط تتجاوز التواصل الحزبي وحده إلى التواصل مع المجتمع العريض بكل تكويناته؛ وتتجاوز حدود الوطن إلى آفاق العالمية. الحركة الحكيمة ليست هي التي تحارب مجتمعاتها وتكفرها، بل هي التي تتصالح ومجتمعاتها وتتناصر معها لتقديم حلول متجددة لمشكلاتها المتواردة. باختصار إن الحركة الجديرة بالمناصرة هي التي تقدم للناس نماذج تتيح لهم أن يتدينوا وأن يعيشوا عصرهم وأن ينجحوا في حياتهم في ذات الوقت. والحركة التي لا تصنع حراكاً كهذا لا تبلغ أن تسمى حركة. إنها تصبح عندئذٍ محض تنظيم بشري يتساند أصحابُه لتحقيق مصالحهم ولو على حساب الآخرين. فليكن النظر إلى الدستور الجديد والحكم له أو عليه من خلال هذا المعيار. ستُقدَّم أمام المؤتمر وثائق مهمة من بينها الدستور الذي عكف على إعداده إخوة انعقد الإجماع على توثيقهم وتنزيه نواياهم. لكن الجهد الذي يقدمونه هو جهد بشري يؤخذ منه ويُرد. ولقد تعلمنا من فقه الإسلام أن أصحّ العبادة هي ما كان بمقتضى الحال. إن جاء وقت الصلاة، فالصلاة أفضل العمل؛ وإن جاء وقت الصيام، فالصيام أفضل العمل؛ وإن جاء وقت الجهاد فالجهاد أفضل العمل؛ وبالقياس فإن جاء وقت الرأي والمشورة فالرأي والمشورة هما أفضل العمل. إن الذين انتدبهم إخوانُهم ليكونوا أعضاءً في المؤتمر انعقد في رقابهم التزام بأن يدققوا ويصوّبوا فكرهم بتجرد نحو الرأي الأسدّ. والرأي الأسدّ هو الذي يسنده الحق ليس الذي يسنده الرجال، فقد سبقت وصية السلف بأن «نعرف الرجال بالحق وليس الحق بالرجال.» وإنه لآثم من يضرب عن المثال الراقي للتداول البنّاء إلى تواكل غبي كسول يجيز القرارات بالهياج والهتاف دون تمحيص أو تدبر أو نظر في عاقبة. في هذا المفصل التاريخي النجاة النجاة لمن حكم بضميره، لا بمصلحته وهواه، ولا بخوفه ورغبته، فهذا مقام لا تجوز فيه المخافة من غير الله، ومن بدل وزاغ عن هذه الاستقامة فحري أن يكون قد دخل في النهي: «يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون.» لقد راج في الأيام الأخيرة حديث بأن بعض الناس قد استجاز لنفسه الوصاية على الآخرين بتمرير توجيهات باسم كيانات لا أصل له في دستور أو لائحة باسم مجالس التنسيق. إن أفضل وصف لمثل هذا العمل هو ما ورد في مذكرة معممة من رئيس اللجنة التحضيرية العليا للمؤتمر بأنه إجراء باطل لا سند له. إنه حقاً عمل طالح استجازه بعضُهم ربما لغفلة أو نسيان، وربما لغلظة في النفوس من تراكم مثل هذه الممارسات دون رادع أو ناصح، حتى أوشك بعضُهم أن يعدّ مثل هذه الممارسة عين الحق. إنه لعمل مخرب لأنه يقتل أعزّ خصيصة تحفظ وحدة الجماعة وهي الثقة. وإنها لممارسة تهدم أهم مبدأ تقوم عليه الرابطة بين الجماعات والمجتمعات وهو مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. في قصة مشهورة أوصى حذيفة عبد الله بن مسعود «رضي الله عنهما» قائلاً: «إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في الدين، فإن دين الله واحد.» حقاً إن دين الله واحد وصراطه قويم ولن يكون حرام الأمس حلال اليوم ولا حلال الأمس حرام اليوم. وإن الحق لا يلد إلا حقاً والزيف لا يُخرج إلا زيفاً، وإذا ضاعت الثقة ضاع رأس المال المشترك. وإن كنا مضيعين لحقوقنا بيننا فإننا لحقوق الآخرين أضيع. أيها الإسلاميون: بين يدي مؤتمركم حرروا أنفسكم تتحرر جماعتكم فإن لم تفعلوا ذلك بأنفسكم فلن يقوم به أحد من أجلكم. أو قال المسيح «عليه السلام» لأصحابه يوماً: «أنتم ملح الأرض، فإن فسد الملح فبماذا يملّح؟» غازي صلاح الدين العتباني