بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها أهل السودان مشاركة مؤثرة دفعوا فيها تضحيات جمّة خاصة ضد الطليان في إريتريا، والمحاربة في شمال إفريقيا ضد روميل «ثعلب الصحراء» وكان انتصار الحلفاء دافعاً لكثير من الأمم التي زُجَّ بها في أتون الحرب لتطالب بنصيب من النصر أقله إعطاؤها حق تقرير مصيرها. وكانت تلك هي الأجواء التي سادت في السودان في أوساط المتعلمين والمثقفين في خواتيم الأربعينيات، فمؤتمر الخريجين قد حرك أشواق الشباب للحرية كما أن مشاركة العسكريين السودانيين في صنع نصر الحلفاء كان دافعاً ومحركاً للمشاعر الوطنية في أوساط العسكرية. وفي هذه الأجواء تأسست الحركة الإسلامية السودانية في جامعة الخرطوم وفي المدارس الثانوية لا سيما حنتوب وخورطقت ولقد تأسست الحركة الإسلامية عملاً معارضاً للاستعمار وترياقاً مضاداً للشيوعية التي استشرت بين الطلاب وتمثلت في نبرة معادية للاستعمار ودعوة للتحديث والتحرر الاجتماعي من التقاليد البالية والقيم الدينية العتيقة.. وكانت الحركة الشيوعية تعبِّر عن نهجها السياسي عبر الحركة المعادية للاستعمار وفي أوساط الطلاب عبر ما عرف آنذاك بمؤتمر الطلاب، كما كانت تعبِّر عن نفسها اجتماعياً عبر سلوك مخالف للقيم السائدة وكان هذا السلوك الإباحي للطالب الشيوعي يستفز تلك العناصر فلا تجد إجابة فكرية لدحض ما كان يعرف حينها بالتحرر الاجتماعي، ولذلك نشأت الحركة الإسلامية أول ما نشأت، جمعيات دينية تدعو للانضباط السلوكي ولكنها سرعان ما تطوّرت عندما برز في أوساط هؤلاء قيادي تنظيمي من الطراز الأول ومفكِّر جدير بالاحترام وكان هذا الشاب النابه هو الأستاذ بابكر كرار المؤسس الذي يتفق السواد الأعظم من قدامى المحاربين أنه مؤسس حركة التحرير الإسلامي حيث كانت هي النواة الحقيقية للحركة الإسلامية السودانية. كانت الحركة الإسلامية بحاجة إلى عقل كبير.. إلى محرِّض جرئ وكان المرحوم الأستاذ بابكر كرار الذي يمتاز بروح المبادرة والمباداة والمقدرة على تحرير الأفكار والآراء ويتمتع بعقل كبير وبحيوية مدهشة وحماسة لآرائه وأفكاره على الرغم مما لاقى من نكسات في جهوده لتأسيس حركة إسلامية قومية المنطلق إسلامية المحتوى اشتراكية السياسة. من الملامح والقسمات التي ميزت الحركة الإسلامية السودانية على الرغم من ابتعاد بابكر كرار عنها مبكراً «الشعور القومي الفيّاض» للإسلاميين السودانيين وعدم شعورهم بأن القومية تقف في الصف المقابل للإسلام كان سببه إن المؤسسين الأوائل وعلى رأسهم المرحوم بابكر كرار كانت تزدحم نفوسهم بالمشاعر القومية القوية وهنا يفسر موقف الحركة الإسلامي القومي البارز من ثورة الجزائر ومن ثورة فلسطين بل وموقفها غير العدائي في أكمله للثورة الناصرية. القائد الثاني الرشيد الطاهر، الذي كان أول إسلامي بارز يحلُّ في ضيافة عبد الناصر على الرغم من أجواء المجابهة بين عبد الناصر والإخوان المسلمين مما زاد عليه من غضب بعض إخوانه في السودان وأدّت علاقاته مع مصر الناصرية مع ترسبات أخرى إلى ابتعاده هو أيضاً عن الحركة الإسلامية بعيد ثورة أكتوبر. كما يزخر تاريخ الحركة الإسلامية بالشخوص الكبار الآخرين من امثال الرشيد الطاهر، ومحمد يوسف محمد، ويس عمر الإمام، وصادق عبد الله عبد الماجد، ومحمد صالح عمر. ثم جاء الدكتور الترابي إلى الجامعة بعد ما صقلته مشاعره الإسلامية بالجمعيات الدينية في حنتوب.. وكان حسن الترابي متميزاً بين أقرانه بثقافته الدينية العميقة ولحفظه لأجزاء كثيرة من القرآن الكريم وذلك بفضل تتلمذه على والده الشيخ عبد الله الترابي أول قاضٍ شرعي سوداني والذي لم يكتفِ بإرسال ابنه للتعليم الأميري بل أراد أن يقوم بنفسه على تعليمه القرآن وعلوم الدين وعلوم اللغة العربية. وكانت الحركة الناشئة في الجامعة تحتاج لمثل الترابي فقد كانت ولا تزال آنذاك تتلمَّس فكرها الإسلامي في كتابات محمد حسين هيكل والعقاد بل وطه حسين في إسلامياته.. كان بابكر كرار يبحث عن شخص ينهض بالجانب التربوي والأيدلوجي للحركة وكان مهتماً للغاية بهذا الجانب ولذلك فقد نشأت علاقة خاصة بينه وبين حسن الترابي وكان يشعر أن الترابي كان أذكاهم عقلاً وأصفاهم نفساً وكان يرى أن الترابي على الرغم مما يبدو عليه من سمت المشيخية بسبب ثقافته الدينية إلا أنه متحرر الفكر. وقال الدكتور الترابي فيما بعد عن هذه العلاقة الخاصة مع بابكر كرار فأثبتها وحفظ حق الأستاذية للأستاذ بابكر كرار. الشهيد محمد صالح عمر، كان من أروع الناس وأزهدهم في كل منصب عليى الرغم من قبوله المنصب الوزاري في حكومة أكتوبر بعد عزم وتصميم الحركة على أن يمثلها محمد صالح، كان محمد صالح عمر أستاذًا للشريعة بكلية القانون عابدًا، زاهداً، جلداً، صبوراً، مقيماً على ما استبان له من وجوه الحق وعلى الرغم من خلافه مع الدكتور الترابي في مسألة منهج الحركة، هل الأولوية للحركة السياسية أم للتكوين التربوي، فقد ظل كريماً في فعله عفيفاً في قوله وعندما اعتقلت قيادة الحركة عقب اندلاع مايو أرسل مؤكداً ولاءه لقيادة الحركة المعتقلة على الرغم من وجوده في الأردن وهو يخوض الجهاد لتحرير فلسطين. كتب «أبو معاذ» وهو اسمه الحركي في الجهاد طالباً التعليمات وعندما وردت التعليمات لم يتوانَ لحظة واحدة في قيادة حركة جهادية انتهت باستشهاده مع الإمام الهادي في الجزيرة أبا1970م.