شهدت أخريات عهد الديمقراطية الأولى شداً وجذباً بين الحكومة والمعارضة وفي نفس الوقت كانت الثقة مفقودة والعلاقة فاترة بين حزبي الأمة والشعب الديمقراطي المؤتلفين في حكومة واحدة متشاكسة، وعند عرض المعونة الأمريكية أيّدها حزب الأمة وعارضها حزب الشعب الديمقراطي، وعلى مستوى العلاقات الخارجية كان حزب الشعب وثيق الصلة بمصر وقياداتها وكانت علاقة حزب الأمة فاترة بها لا سيما بعد أحداث حلايب والمواجهة التي أعلنها السيد عبد الله خليل. لكن الرئيس عبد الناصر آثر ألا يصعِّد الموقف بين البلدين وأعلن الانسحاب من حلايب وفي تلك الأيام زار الأميرلاي عبد الله خليل رئيس الوزراء صديقه الأمبراطور هيلا سلاسي وأمضى معه عدة أيام بأديس أبابا. وكتب الأستاذ عبد الرحمن مختار في كتابه « خريف الفرح» أنه كان في معيّة الأميرلاي في تلك الزيارة وهناك بعث الأستاذ يوسف مصطفى التني سفير السودان بمصر رسالة للأميرلاي أخبره فيها بأن ثمة محاولات من قبل القيادة المصرية للجمع بين قيادتي الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي لتوحيدهما مرة أخرى في حزب واحد وهذا يعني إنهاء الائتلاف الحاكم وإبعاد عبد الله خليل عن السلطة. ومن جانب آخر فإن هناك تياراً كان يقوده السيد الصديق المهدي رئيس حزب الأمة كان يسعى لإعفاء سكرتير الحزب عبد الله خليل عن رئاسة الوزراء واستبداله بالدكتور مأمون حسين شريف وزير المواصلات وهو من آل المهدي. وهناك قول آخر بأن ذات التيار الذي يقوده السيد الصديق كان ينادي بالائتلاف بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي لتشكيل حكومة ائتلافية تعهد رئاستها بالانتخاب من داخل البرلمان للسيد إسماعيل الأزهري وهذا يعني إقصاء السيد عبد الله خليل وإبعاده من رئاسة الحكومة وفض الائتلاف مع حزب الشعب الديمقراطي الذي يتحول تلقائياً للمعارضة. وخلاصة القول إن الأوضاع السياسية كانت مضطربة وغامضة والثقة مفقودة بين كل مكونات الساحة السياسية وأخذ الأميرلاي عبد الله خليل يحسُّ بالغبن وأدرك أن كل التيارات كانت تسعى لإقصائه من السلطة. والمعروف أن أول قائد عام للجيش من السودانيين هو الفريق أحمد باشا محمد الذي تقاعد بالمعاش وحلّ محله صهره وشقيق زوجته الفريق إبراهيم عبود الذي كان يهيء نفسه ويرتب أوضاعه لفترة ما بعد المعاش التي أزف أوانها ومن بين خياراته كان يفكر في افتتاح متجر لبيع الدراجات لكن شاءت إرادة الله أن يتولى عبود رئاسة السودان لمدة ستة أعوام إذ أن عبد الله خليل رئيس الوزراء كان أيضاً وزيراً للدفاع وبهذه الصفة الثانية كان وثيق الصلة بالقائد العام للجيش وأقنعه بضرورة أن يستلم السلطة. وكان الفريق عبود متردداً في البداية لكنه اقتنع في النهاية واعتبر أن هذا أمر واجب التنفيذ وكان السيد الصديق المهدي خارج السودان عندما بدأت عملية التسليم والتسلُّم حتى تمت. وكان للإمام عبد الرحمن مكانة خاصة عند السيد عبد الله خليل وجلس معه مرات وأخبره أنه قد اتفق مع القائد العام للجيش على تولي السلطة لأمد محدود وفترة انتقالية قصيرة. وقد نال عبد الله خليل موافقة ومباركة الإمام عبد الرحمن لعملية التسليم الانتقالية وكما هو معروف فإن الفريق عبود من شايقية الشرق من مواليد سنكات وهو من أبناء الختمية وأن عدداً من زملائه من كبار الضباط من أبناء الختمية أيضاً وقد التقى عبد الله خليل بالحسيب النسيب السيد علي الميرغني وجلس معه طويلاً ونال رضاه ومباركته لعملية التسليم والتسلُّم للقائد العام للجيش وكبار الضباط وقادة الوحدات وإحاطتهم علماً بما جرى الاتفاق عليه. والمعروف أن اللواء أحمد عبد الوهاب نائب القائد العام كان أنصارياً من أسرة عرفت بالانتماء للأنصار وقد لعب دوراً كبيراً في تنفيذ الانقلاب بحكم صلته الوثيقة برئيس الوزراء وصلته الوثيقة أيضاً بالقائد العام وأضحى فور نجاح عملية التسليم نائباً لرئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ووزيراً للداخلية حتى أُبعد أو ابتعد في عام 1959م. وفي صباح يوم 17 نوفمبر 1958م وهو اليوم المقرر لانعقاد البرلمان أذاع الفريق إبراهيم عبود بيانه الأول وأعلن استلام الجيش للسلطة، ومن هنا يتضح أن العملية كانت تسليماً وتسلُّماً ولم تكن انقلابا عسكرياً بالطريقة المتعارف عليها، ومن هنا يتضح أيضاً أن عبد الله خليل بك ساهم إلى حد كبير في تغيير مسار تاريخ السودان الحديث، وكان هو مدبر ومنفذ خطة تسليم السلطة للجيش. ويظل السؤال قائماً: هل قام عبد الله خليل بعملية التسليم والتسلُّم وفقاً لحسابات موضوعية ودوافع وطنية؟وإذا صاب أو أخطأ فقد حاول أن يجتهد أم أن دوافعه شخصية وكان يسعى للانتقام من الآخرين والانتصار لنفسه ولسان حاله يقول وهو يسقط النظام الديمقراطي البرلماني:«عليّ وعلى أعدائي»، وكان عبد الله خليل يأمل في تكوين مجلس سيادة تكون رئاسته دورية يضمه هو والسيد إسماعيل الأزهري وآخرين بعد تنفيذ التسليم والتسلم. وبعد أداء رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة القسم أمام فضيلة الشيخ أبشر حميدة مفتي الديار وقاضي القضاة بالإنابة بدأوا في مباشرة مهامهم ورفضوا ومنذ البداية بالإجماع قيام مجلس سيادة من القادة الحزبيين المدنيين لأن قيامه فيه ثنائية وازدواجية ويغدو السودان برأسين للدولة. وبدا من البداية أن العساكر قد قرّروا بحزم أن يكونوا هم الممسكين بكل الخيوط دون أن يكونوا أداة طيّعة في يد أي جهة، مع رفض أي وصاية من الأحزاب التي حلّوها فور إعلانهم استلام السلطة، وقد أدرك العسكريون النوفمبريون أن الشعب السوداني يهتم بالسياسة ويكثر الحديث فيها ويحلهم للأحزاب وتجميدهم للحياة السياسية بعد ذلك أحدثوا فراغاً كبيراً وسعوا ونجحوا في ملء هذا الفراغ بالاهتمام بالرياضة وبلغ تأجيج المنافسات بين فرق كرة القدم ذروته مع استقدام فرق كثيرة من الخارج وبلغ التشجيع الكروي درجة الهوس. وبهذا ثبت للسياسيين منذ الأيام الأولى للحكم العسكري أن حساباتهم خاطئة إذ كانوا يظنون أن العسكريين سيتولون مقاليد الأمور لفترة انتقالية قصيرة يشرفون فيها على إجراء انتخابات عامة ويعودون لثكناتهم بعد ذلك لكن العسكريين ردوا عليهم بأن الشعب رفض الحكم الحزبي وأيدهم بدليل الاستقبالات الجماهيرية الحاشدة التي ظل يلقاها رئيس وأعضاء المجلس الأعلى في أي مكان يذهبون إليه. واستمر الشد والجذب بين السياسيين العسكريين حتى انطوت صفحة الحكم العسكري بعد ثورة أكتوبر 1964م. ما أوردته أعلاه مضمن بالنص والحرف في كتابي «الجبهة الوطنية أسرار وخفايا» واكتفيت هنا بإيراد محطتي بداية الحكم العسكري النوفمبري ونهايته، أما ما حدث بينهما فإنه يحتاج لوقفات أخرى.