نعدُّ العدة الآن لإنتاج مسلسل تلفزيوني عن رواية كنت كتبتها قبل مدة عنوانها «مشلهت والضياع الكبير» وهي ضمن منظومة رواية «تغريبة بني شقيش وفارسهم الهمام المشلهت الدياسبوري» التي تؤرخ لبداية الموجة الاغترابية التي أصبحت ظاهرة منذ البيان الأول للرئيس الأسبق نميري رحمه الله وهو يعلن استيلاءه على السلطة في الخامس والعشرين من مايو عام 1969 في دراما بانورامية ذات مدى زمني يصل إلى قوانتانمو. وقد شاهدت الدراما المصرية والسورية والتركية وسألت نفسي كثيراً: هل من الصعب علينا إنتاج دراما سودانية تقف جنباً إلى جنب مع ذلك الإنتاج؟ حتى شاهدت مسلسل «الخواجة عبد القادر» وشاهدت أداء ممثلينا فكان مشرفاً. وتيقنت أن غياب النص الدرامي المحكم والتدريب والتقنيات الفنية هي ما ينقصنا لإنتاج دراما سودانية ذات وزن. التقيت بالأستاذ المخرج عاطف السنهوري الذي يحمل بكالريوس المونتاج السينمائي من أكاديمية الفنون بالهرم مصر دفعة يوليو 1988م. عاطف عمل مع المخرج المشهور إسماعيل عبد الحافظ كمساعد مخرج في مسلسل «الشراقي» وليالي الحلمية الجزء الخامس، كما عمل مونتير إليكتروني في «عائلة الدغري» ومسلسل «قط وفأر»، ومسلسل «يوم عسل ويوم بصل» ومنفذ لبرامج تلفزيونية أخرى عديدة منها إنتاج إعلاني وإناتج وثائقي. وناقشنا موضوع الدراما السودانية.. وتطابقت رؤانا. وعندما اطلع على رواية «مشلهت والضياع الكبير» وبخبرته الثرة تحمّس لخوض تجربة إخراجها كمسلسل تلفزيوني يصلح للبث في شهر رمضان المقبل في إحدى القنوات الفضائية السودانية. نريد فعلاً أن ننتج عملاً مشرفاً نفخر به وننافس به في جميع المنافسات الدولية، وعليه فسنقوم أولاً، بتدريب مكثف للوجوه الجديدة التي سنستعين بها لتنفيذ ذلك المسلسل. كما أن السيناريو وهو عصب الرواية يجب أن تكون له أبعاد ورؤية تجسيدية للمواقف مهما كانت تركيباتها. فمثلاً مثل المشهد التالي يحتاج إلى لغة مكثفة على درجة عالية من رسم الحدث حتى يكون مقنعاً. سنحتاج إلى خبرات فنيين هنود من بولي وود وفنيي صوت حتى نتغلب على الضعف في هذين العنصرين خذ مثلاً هذا المشهد الذي يدور في إحدى المستشفيات: «عجوز تبحث عن مريض وهي تسأل مشلهت: - هوي يا ولد.... دحين عندنا ولداً بقولولو الماحي، قالوا جابوهو هني عشان الغسيل... يعلم الله لينا يومين نساسق بجاي وبجاي كل مرة يقولولنا في فجّة تانية دحين ما عندكم ولداً بقولولو الماحي؟ خاطبته المرأة قائلة: هوي يا ولد... ولم تقل له يا ولدي.. التي تحمل درجة عالية من الخصوصية أما يا ولد فهي على العموم.... فشعر بأنه أصغر من سنِّها.... إذ أن يا ولد تضعه في مصاف الأولاد الذين يمكن أن ترسلهم لأي مكان... ورداً عن سؤالها عن الماحي قال: - ما في ولداً بالاسم دا مرّ علينا بجاي ... لكين ممكن تسألي الممرضة. فتقول بشيء من الامتعاض: - بس... هي القشيرة خشمها وهي ستو ... أبت تبْ تنضم معاي .... ما بعرف حكايتها معاي شنو؟ - الممرضة ياتا؟ - واحدتن لاقيتا هناك... هي يا زول خلها... إن شاء الله ما تنضم.. أنا ما كجّنت إلا الفلهمة... - ما يمكن ما سمعتك؟ - أجي؟!! سمعتني وفات أضانها... - إنتي مش قلت جابوه للغسيل؟ - أيا .. - طيب الغسيل ما هنا... إنتي تمشى قسم الكلى... هناك بقولوا ليكي ودوهو وين.. يقول مشلهت هذا للمرأة وهو لا يعلم إن كان هناك قسم للكلى أم لا... فكل تلك الأمراض تعتبر باطنية... ولكن كان عليه أن يعطيها إجابة يراها هو مناسبة وتشفي غليل تلك المرأة من ناحية أخرى.. إلا أنها تقول له: - هوي يا جنا... ما عندك تمباك؟ باقي متقريفة... لم يكن مشلهت يتوقع مثل ذلك الطلب... المرأة يابسة كشجر المرخيات... ولا يبدو عليها أنها تناولت أية وجبة في الزمن القريب... وها هي تطلب تمباكاً.. لقد نحتت الحياة القاسية أولئك النسوة... وجعلت متطلباتهن في الحياة بسيطة.. إن درجة الجفاف التي يحتملها جسد هذه المرأة تقتل أية امرأة من نساء المدينة. كان البوليس المكلّف بحراسة مشلهت يستمع إلى هذا الحوار... فقال مبتسماً: - إنتي يا عجوز كمان بتسفي؟ - هي نان العلي هين؟ نحنا في بلدنا هناك عندنا شنو غير السفة.... علا أنا ما جبت معاي حقتي.. ويسألها مشلهت: - أهلكم وين إنتو؟ - أهلنا في الشاهلاب ... أنا حالتي جاية من أم كركر سمعت قالوا جنا ناس أبو حليمة البقولولو الماحي عيان جابوه للغسيل.. عاد كما شفتو ما بمشي... - وجيتي بشنو؟ - جيت بلواري الخط.. هسع ما تساعدني باقي متقريفة وخلقي ضايق.. كان عندك سعوط أدني.. وكما عندك ودعتك الله... ويلتفت البوليس إلى أحد الأشخاص ويبدو عليه أنه يعمل ميكانيكاً وذلك من لبسه المتسخ بالزيت.. ويتحصل على سفة في كيس نايلون يناوله للمرأة فتكور منه سفة معتبرة تضعها بكل حرافة في شفتها الشفلى وتشكر الجميع... إها ودعتكم الله. وتتحرك خارجة من العنبر. - عاد القوم أمش... الليلة عاد يا الماحي محل ودوك ما خبرناهو... الله يلطف. على باب الله وعلى رزق الله وعلى كرمه يسير هؤلاء القوم... تلفح وجوهم الشمس وينساب عبر أجهزتهم الفراغية السموم... لا أحد يأبه بهم أو يثيرون شيئاً من اهتمامات الجميع إلا أنهم لا يفرطون في واجباتهم الاجتماعية... يكفي أن يكون الماحي قد نقل للمستشفى في مكان ما لا أحد يعرف أي مستشفى أو أي عنبر أو أي مدينة أو أي حي... ولكن الذي يسأل لايتوه... وهل هناك توهان اكتر من هذا؟ السيناريو والحوار يجب أن يلقيا ضوءاً على هذا الجانب الإنساني ويرسما الفعل الدرامي بكل أبعاده. إن مثل هذه الومضات تحتاج لمخرج وكاتب سيناريو وشخص له دراية باختيار الأشخاص لتلك الأدوار Casting وإذا اختل التوازن في أي مكمل للمشهد فإن الفشل سيكون حليف ذلك العمل. نأمل أن نحصل على الرعاية المطلوبة التي تسهل قيام وإنتاج دراما تلفزيونية نفخر بها.