أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت ههنا... أنا من ترابك ذرَّة ماجت مواكب من مُنى... أنا من مياهك قطرةٌ... سالت جداول من سنى... أنا من طيور بلبلٌ غنَّى بمجدك فاغتنى... حمل الطلاقة والبشاشة من ربوعك للدَّنا... كم عانقت روحي رُباك وصفَّقت في المنحنى. هكذا كان الطيب صالح يجري حبّ السودان بوجدانه، مجرى الدم من العروق. لذلك كان يحمل الطيب صالح شخصية السودان إلى العالم، طلاقةً وبشاشةً وتواضعاً وأدباً. ولذلك كان يبكيه نغم سوداني. في أخر زيارة للأديب الراحل الطيب صالح إلى الخرطوم في أبريل 2005م، وفي حضور أنيق ضم كوكبة من مثقفي السودان، انتقدته السيدة جريتزلدا الطيب، أرملة نابغة السودان عبد الله الطيب، حيث احتجت على ما ورد في رواياته عن (الإستعمار الإنجليزي في السودان الذي لم يخدم الشعب السوداني). حيث قالت إنها عندما جاءت إلى السودان في الخمسينات خلال الحكم الإنجليزي، وجدت أوامر رسمية باحترام المسلمين في الشمال. ثم قالت (جريتزلدا) إن الطيب صالح لم يحترم المرأة الإنجليزية في رواياته وبشَّع بها. وعن شخصية (مصطفى سعيد) في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، قالت إنها تتضمَّن عدداً من الأشخاص مثل زوجها عبد الله الطيب ومحمد صالح الشنقيطي والطيب صالح ذاته. وأوضحت (جريتزلدا) أن (مصطفى سعيد) تشكّل بصورة أقوى من شخصية (مكي عباس) و (سعد الدين فوزي) و (عبد الله الطيب)، وأن الغرفة السِّريَّة ل (مصطفى سعيد) هي غرفة محمد صالح الشنقيطي، لتطابق الفعل والأوصاف والأدوات. إستمع الطيب صالح بسماحته المعهودة وأدبه الجمّ إلى حديث السيدة (جريتزلدا) وشكرها على إضاءتها ورأيها، مشيراً إلى أنه قد قرأ هذا الرأي من قبل. قال الطيب صالح إن (جريتزلدا) تبدو عاتبة على رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، لأنها قدَّمت المرأة الإنجليزية بشكل غير لائق، وإن السيدة جريتزلدا أخذت الأمور بجدية، ولكن (موسم الهجرة إلى الشمال) رواية والرواية تخرج من خيال الكاتب، وفيها انجليز طيبون وانجليز أشرار. ثم أضاف أنا لم أحاكم الناس في أخلاقهم، وهناك لديّ (جين مورس) المثاليَّة، وأنا لم أورد حياة أي من الأشخاص الذين تحدثت عنهم السيدة (جريتزلدا) مثل الراحلين مكي عباس وعبد الله الطيب وسعد الدين فوزي، بل جاءت الرواية من الخيال المحض، ثم أضاف الطيب صالح مخاطباً جريتزلدا... أنتِ أستاذة أدب وتعلمين ذلك لأنك متعمِّقة في الأدب والرواية لأجيال ما بين الحربين (1914- 1937م)، وأنا لم أتناول سيرة أي من هؤلاء الأساتذة الأجلاء، كما أنَّني إذا كنت أود كتابة رواية عن حياتي لكتبتها بوضوح، فأرجوك يا عزيزتي أن تعيدي النظر في هذا الأمر. في ذلك اللقاء أفاض الطيب صالح في حديثه ليقول إن السودان اليوم بخير وأفضل من الماضي، وإن الفنان الدكتور راشد دياب من الأبناء النابهين ومن اشعاعات الفنان إبراهيم الصلحي وزملائه الذين أسَّسوا مدرسة الخرطوم التشكيلية. في ذلك اللقاء الأخير للطيب صالح بالخرطوم، كان ِممَّا قاله الفنان راشد دياب: إن الطيب صالح عام 1997م عندما كان في زيارة إلى (مدريد) باسبانيا وكان معي في السيارة، أسمعته أغنيات سودانية فأجهش بالبكاء. لماذا أجهش الطيب صالح بالبكاء، وأيّ وترٍ ، وأيّ شجنٍ في أعماقه قد أيقظته تلك الأنغام. في ذلك اللقاء الأخير المميَّز للطيب صالح بالخرطوم، شبَّه الدكتور محمد ابراهيم الشوش صديقه الطيب صالح ب (نانسي عجرم)، فقال الطيب صالح أنا أقول يا ليتني وصلت مكانها فهي تملك الملايين وجميلة أيضاً.