معطيات جديدة تواجه واقع الحركة الإسلامية في السودان وتطوقها من عدة جبهات لكل جبهة قوتها وعتادها وأسلوبها ربما تختلف في مكوِّناتها ومنطلقاتها الفكرية والإيدولوجية لكنها بالطبع تتفق فيما بينها تحت قاعدة واحدة غاية ما تنشده إبطال مفعول الإسلاميين أو تعطيل مشروعهم الذي انبلج فجره عشية الثلاثين من يونيو «1989» تحت ديباجة وفكرة الإسلام السياسي، لم تكن هذه المعطيات وليدة اليوم لكنها أطلت في المسرح السياسي السوداني منذ أن شرع الإسلاميون في إرساء مشروعهم عبر مفاهيم وبرامج إسلامية لم يكن من السهل أن تستوعب القوى السياسية في ذلك الوقت هذا المشروع، فبرزت محاولات الضغط والاحتواء والعزل من المجموعات الدولية مسنودة بحراك سياسي داخلي تأذَّى كثيرًا من ظاهرة الاستقطاب السياسي الحاد الذي كان هو أيضًا مشروعًا سياسيًا موازيًا لفكرة الإسلاميين في تفكيكك قوى الداخل وبالأخص القوى الحزبية ومن ثم تهيئة الساحة السياسية والدينية للهدف الأسمى للإسلاميين وهو التمكين في السلطة. غير أن مياهًا كثيرة جرت تحت جسر مشروع الإسلام السياسي فتهتَّكت أوصال الحركة الإسلامية بفعل الحصار السياسي الذي واجهته محليًا ودوليًا فاضطربت الحياة السياسية الداخلية وتشقق البناء الحزبي للمؤتمر الوطني الذي هو بحسابات أدبيات الإسلاميين «المولود الشرعي» للحركة الإسلامية إلا أن هذا المولود تأثر كثيرًا بفعل العواصف وتقلبات الطبيعة السياسية داخل مكوِّنات المجتمع السوداني ففقد الحزب مرجعيته الفكرية والسياسية في أعقاب حركة الرابع من رمضان الشهيرة في العام «1999» ويبدو أن المؤتمر الوطني ومنذ ذلك التاريخ لم يكن في حاجة إلى أي مرجعية فكرية فقد وجد في قوى الداخل الباحثة عن شراكة ووظائف سياسية مرجعًا ومتكأً بديلاً ممَّا فقده الحزب في ذلك الانشقاق. ولعلَّ المحطة التي يقف عليها المؤتمر الوطني الآن كأنه يبحث عن مرجعيته الفكرية الضائعة في أتون الصراع المتجذِّر في مفاصل الإسلاميين فضاعت الحركة الإسلامية نفسها وفقدت بريقها وتهشَّمت قواها وتبدَّلت المعادلة من حركة صانعة للنظام وللحكم وصاحبة المرجعية إلى حركة مصنوعة وتابعة فاهتزت العلاقة ما بين الحزب والفكر كما أن المؤتمر الوطني نفسه عانى كثيرًا من ظاهرة الضباب الكثيف الذي غطى ملامح العلاقة ما بين المرجعية السياسية والسلطة التنفيذية وأعني هنا العلاقة ما بين المؤتمر الوطني والحكومة ربما هي علاقة جدلية وغير مفهومة لدى قوى المجتمع السوداني، فالآخرون ينظرون لطبيعة هذه العلاقة بأن الذي يفصل ما بين الحزب والسلطة خيط رفيع لا يكاد يُرى بالعين المجردة، أما أصحاب الشأن فهم لا يبالون بخلط الأوراق أو تداخل الاختصاصات وأنه ليس بالضرورة أن يكون ما للحزب للحزب وما للحكومة للحكومة، ولهذا ظل الحزب في حضن السلطة بلا انعتاق ولا انفطام يمسك بكلتا يديه على ثدي السلطة يأخذ حقه كاملاً دون أن يترك شيئًا لإخوته في الرضاعة. فإذن هذه علائق مختلَّة ليس فيها منطق سوى منطق السلطة والقرار والانتماء وما حدث في عرس الحركة الإسلامية الأخير يشير بجلاء إلى حقيقة كيف أن الحركة الإسلامية تراجعت في مشروعاتها وأفكارها للحكم وبدلاً أن تكون شكلاً للعمق الديني والفكري الذي يصلح ويرشد الحاكمين ويأخذ بيدي السلطة إلى الحكم الرشيد باتت هي الأحوج للإصلاح وبدلاً من أن تتحدث بلسان واحد برزت الآن عدة أصوات وتيارات داخل كيان الحركة الإسلامية الأمر الذي ربما يقود إلى تباينات فكرية أخرى قد تدفع آخرين للقفز خارج أسوار الحركة.. ورغم الحديث عن محاولات شتى تنشط الآن لتحجيم التيارات المتفلتة في محاولة لإحداث نوع من التوافق في الآراء والمقترحات التي برزت اختلافاتها عشية التشكيل الجديد في هياكل الحركة الإسلامية والتحدي الذي يواجهه الإسلاميون الحاكمون الآن ليس في امكانية ضبط مواعين الحركة الإسلامية وأدواتها بما يتفق مع المشروع الإسلامي الكلي وإنما حاجة الإسلاميين إلى صياغة جديدة لمشروعهم الذي أصابته كثير من الأعطاب فلا بد للإسلاميين من تصحيح مساراتهم السياسية وإقرار مبادئ جديدة للمرجعية الفكرية والبحث عن صيغة إسلامية غير اقصائية تضمن للسودانيين توافقًا جامعًا بلا أدنى اشتراطات أو مسوِّغات.