مخاض عسير تعيش فصوله منظومة الأحزاب التقليدية، حيث تتفاعل وتتحرك المكونات الداخلية لهذه الأحزاب في محاولات جادة للبحث عن مخارج تقود إلى انعتاقها أو انفكاكها من سلطان الطائفة والأسرة أو القبيلة، بحثاً عن مسارات جديدة بعيداً عن زعامة الرجل الواحد والفكرة الواحدة والبرنامج الواحد للحزب الواحد.. فتولدت من بين هذا الحراك أفكار وتوجهات جديدة عبرت عنها معظم الكيانات الحزبية القائمة أو بالأحرى المجموعات والتيارات المناهضة في شكل مذكرات تتحرك بين هذه القوى تعلو ثم تهبط، تختفي ثم تطل بأعلى رأسها على واقع حزبي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه بات كالمرجل الذي يغلي تحت نيران هذه المذكرات والتيارات الضاغطة والباحثة عن بدائل.. ولكن يبقى السؤال ما هو الرابط بين شكل وطبيعة المذكرات الحزبية ومقاصدها الأساسية، وقضية الشورى عند الإسلاميين والديمقراطية والشفافية لدى الأحزاب والتنظيمات الفكرية والعقائدية؟ وما هي إذن القوى الحقيقية الدافعة لأصحاب المذكرات؟ أليست أزمة التعبير والتداول السلمي للرأي والرأي الآخر داخل مكونات القوى السياسية من الدوافع الأساسية وجوهر الأزمة التي عجلت بظهور هذه المذكرات، حتى أنها أصبحت أدباً سياسياً جديداً يضرب أوصال الأحزاب ويفتك بقواها ويهدد عروشها، ويبدو أن الذين هندسوا المذكرات «الربيعية» ورسموا خريطة مساراتها ترسخت لديهم القناعات بأن أحزابهم ما عادت تلبي طموحاتهم بسبب غياب الآليات والمواعين الشورية، فضلاً عن انعدام المرجعية الفكرية والسياسية، ولهذا يعتقدون أن الوقت قد أزف وأن الانقلاب آتٍ لا محالة، وأن الذين بيدهم مقود القيادة قد استنفدوا أغراضهم كاملةً، وما عاد هناك أحد يرغب في خدماتهم.. فكم من الزمن الذي أضاعته القوى الحزبية جمعاء في ما لا طائل منه لصالح الدولة السودانية؟ منظومة أفسدت كل شيء.. هدر في المال والجهد والفكر واضطراب في البرامج والسياسات بالرغم من أن القوى السياسية الحزبية تعتبر من أهم الأدوات والوسائل المشروعة في انتقال السلطة وتداولها بين المكونات السياسية السودانية، ولكن ردة الفعل التي واجهتها المذكرات كانت متباينة ومتضاربة، وفي حدها الأقصى التجريد ثم المحاسبة، وهي الدرجة التي وصل إليها قادة المؤتمر الوطني، فيما كانت هناك رؤية أخرى مهادنة تنظر إلى مثل هذه المذكرات برؤية كلية ترى أنه من الضروري التعاطي معها وقراءتها في سياق المهددات الكلية، وعدم عزلها من المحيط الدولي والإقليمي، على أن يتم الجلوس مع أصحابها ومحاولة التفاهم معهم عبر الحوار. ولأن حزب المؤتمر الوطني ربما هو المعني بالدرجة الأولى بمثل هذه المذكرات أو بالأحرى هو صاحب مذكرة «الألف أخ» أو التصحيحية وحتى الآن لم يعلن صناعها بشكل رسمي، ولكن قطعاً أن من بين قادتها من هم قيادات بارزة وربما من الصف الأول في الحزب الحاكم، ولهذا عرفت فيما بعد باليتيمة ثم «المذكرة الشبح»، ورغم الزخم الكبير والغبار الكثيف الذي أثارته هذه المذكرة داخل أسوار المؤتمر الوطني وصفوف الحركة الإسلامية «الحاكمة والمعارضة»، إلا أنها أصبحت نسياً منسياً كما يقول القيادي حاج ماجد سوار. وبما أن مذكرة الوطني قد ألقت بظلال كثيفة على الواقع السياسي والحزبي، فإن الآخرين يتهمون الوطني بأنه يحاول تعميم أدب المذكرات، أو بمعنى تصدير الفكرة ودفعها إلى مسرح الأحزاب، ويبدو أن هذه المحاولة أصابت أقوى خصوم الوطني في حزبي «الشعبي والأمة» فعلى صعيد الشعبي يعتقد الدكتور حسن الترابي أن المؤتمر الوطني هو الذي صنع مذكرة شباب الشعبي، وأنه ليست هناك أية مذكرة تصحيحية بالشعبي حسب تأكيدات الدكتور بشير آدم رحمة أمين العلاقات الخارجية بالشعبي، في الوقت الذي تشير فيه بعض التسريبات إلى أن مجموعات شبابية مقدرة تتحرك داخل الحزب في اتجاه إحداث شكل من أشكال الانقلاب الأبيض أو إحداث قدر من التحولات المطلوبة في البناء القيادي والهيكلي، وإعادة رسم جديد لمواقف الحزب ومرجعيته وتفكيره السياسي إزاء مجمل ما يجري في الساحة السياسية، خاصة أن الفترة السابقة كانت قد شهدت ظاهرة تقارب وتواصل مستمر بين المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي، الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة ضد توجهات الشعبي الأخيرة، خاصة في ما يلي قضايا المشروع الإسلامي في السودان. وعلى جبهة السيد الصادق المهدي فقد انتقلت حمى المذكرات من حوش المؤتمر الوطني إلى دار الأمة، حيث شهدت الأيام الفائتة ميلاد مذكرة شبابية أنكرها المهدي ورفض الجلوس مع أصحابها، بحجة أن المذكرة دخلت عبر البوابة الخطأ، أي أنها ذهبت للإعلام قبل أن توضع في يد قيادة الحزب. وعلى جبهات أخرى تتحدث الأوساط السياسة والتقارير الإعلامية عن مذكرات أخرى بعض منها داخل حركة «حق» التي تتزعمها القيادية الشيوعية هالة عبد الرحيم، كما أن جبهة الاتحاديين لم تسلم من جرثومة المذكرات، فهناك مجموعة مناهضة لخط المشاركة في الحكومة يقودها أبو الحسن فرح تتحدث الآن عن ميثاق سياسي يسعى لإطاحة فكرة المشاركة ويطالب في ذات الوقت بالوحدة الاتحادية وضخ دماء شبابية جديدة على مستوى القيادة. وتأسيساً على كل هذه المعطيات فإن مذكرة الوطني ربما تصبح مرشداً وهادياً للقوى الحزبية الأخرى لتنحو ذات المنحى، ولكن يبقى التحدي هل سينتهي مصير كل هذه المذكرات إلى لا شيء بمثل ما انتهت إليه المذكرة اليتيمة؟!