هذه قضية معروفة الحديث عنها تحصيل حاصل، المطلوب الآن انتشال التعليم من القاع الذي سقط فيه. أبدأ بروايات قصيرة عن ما ذكرته في المقدمة وأصدقكم القول إنني لم أجد لقباً أسبق به اسم عبدالرحمن علي طه، كل الألقاب تتضاءل أمامه وإنني اكتفي بلقب الأستاذ. وهو أول وزير للتعليم بعد الاستقلال، وكانت الوزارة تسمى بوزارة التعليم.. إنني أتجاوز وعلى عجل ما قدّمه للأمة في هذا المجال لأنتقل لقضية يعتزُّ بها أي سوداني وستظل ترفع رأس السودان عالياً. روى لي أستاذ جامعي وهو موضع ثقة أنه بعد الاستقلال طلبت بريطانيا من الأستاذ عبدالرحمن علي طه أن يحضر إلى بريطانيا للمساهمة في مراجعة مناهج التعليم البريطانية وقد استجاب للدعوة وأنجز مهمته لتصبح وساماً في صدر أي سوداني وبصفه خاصة في صدر كل من له صلة بالتعليم. هذا ما جعل صحف بريطانيا تنعيه عند وفاته. عند عودته إلى الخرطوم استقبله السفير البريطاني في ذلك الوقت وتكريماً له (أمر السفير بلاندروفر وبما أنه لا يسمح لعلم البلد في أي عربة إلا إذا كان السفير يستعمل تلك العربة، فرافق السفير بعلمه الأستاذ عبدالرحمن حتى أربجي.) ننتقل لعهد الرئيس عبود: قرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة مراجعة المرتبات فاقترح الرئيس في أحد الاجتماعات أن يكون مرتب المعلم أكبر مرتب مقارنة مع زملائه ووجد الاقتراح معارضة شديدة لكن سيادته تمسك برأيه في النهاية لم ينجح الاقتراح. كانت مطالب الوفود التي تزور القصر من وقت لآخر تنحصر مطالبها في الشفخانة والمدرسة فقرر اللواء طلعت فريد وكان وزيراً للمعارف أن يفتح المدارس الأولية فجمع قيادة الوزارة للمشورة فكانت النصيحة أن المدرسة لا بد أن تكون من الطوب الأحمر وكذلك المنشآت التابعة لها، بعد التشاور مع مديري التعليم في المديريات والزعامات وأصحاب الوجاهات، فقرر فتح نحو »120« مدرسة أولية على أن تشيّد من القش (والما قرأ في مدارس القش ما قرأ) معليش فقد قرأت في مدرسة قش بكتير بلة بجزيرة أم جر. ننتقل لسلم نميري وما ترتّب عليه وأن نقارن بينه وبين ما ذكرنا أعلاه. تحضرني في هذه اللحظة مقولة مشهورة للأستاذ الكبير بشير محمد سعيد، صاحب صحيفة الأيام، طيّب الله ثراه، عند لقاء له مع نميري يرحمه الله إن كل السلالم تؤدي لأعلى إلا سلمك التعليمي يقود لأسفل، ومن هنا بدأ التدهور واضحاً في الأداء في العديد من مرافق الدولة وأصدقكم القول إنه عندما أتوجه لقضاء أي عمل في مرفق حكومي فمن طبيعة القرار والمناقشة أقتنع أن هذا المسؤول خريج السلم. وللسلم قصة. كان معهد بخت الرضا يرغب في تعيين مدير جديد ومن بين الذين قدموا للوظيفة شخص يحمل درجة الدكتوراه وفي المعاينة تمت الإشادة به وبدرجته العلمية لكنه أبلغ بأنه هو خريج معهد سرس الليان وهذا لا يتفق مع ما هو مطلوب في هذا المعهد فخرج غاضباً وشاءت الظروف أن يعين وزيرًا للتربية والتعليم في أول حكومة لنميري ومن حينها بدأت كارثة التعليم والسلم وانهيار معهد بخت الرضا. وأقول بهذه المناسبة إنه عندما يختار أي معلم للعمل في الوطن العربي أو إفريقيا ويعرف أنه خريج بخت الرضا فلا يخضع لمعاينة أو سؤال أو جواب إنما يعيَّن فورًا. والآن وبسبب التعليم تتعرّض البلاد لتدهور في الأداء الحكومي ومتاهات لا قبل لنا بها، وقد أدرك المسؤولون هذه المشكلة وبدأت الدراسات والندوات والمنتديات في محاولات جادة لإنقاذ التعليم، وبدون أن نظلم أي شخص تخاف أن يكون الذين يقومون بهذا العمل هم خريجو السلم. ولتكون المحاولة جادة لا بد من البحث عن ما هو على قيد الحياة من قدامى رجالات التعليم للاستعانة بهم في انتشال التعليم وإعادته للسيرة الأولى وإننا نطمح أن يرجع التعليم لما كان عليه وعلى رأسه بخت الرضا. اختتم بما قاله البريطانيون عند الاستقلال:» إننا تركنا في السودان ثلاث مؤسسات لا مثيل لها في أي من المستعمرات البريطانية في العالم وهي الخدمة المدنية ونظام التعليم ونظام القضاء«.