كثيراً ما أجد عبارات خيبة الرجاء وعلامات الأسى والإحباط مرتسمة على وجوه الحادبين على الحركة الإسلامية عند تناولهم لمخرجات مؤتمرالحركة الثامن الذي انعقدت حوله آمال عراض لإحداث إصلاح ملموس لمؤسسات الحركة، وتجلية لقيمها ومبادئها، وتجديد دمائها وروحها. فحقيق لمن تهيأت أنفسهم لهذا القدر من الإصلاح والإشراق أن تنقبض روحه، وتذهب نفسه حسرات لكن، ولحسن الحظ، لم أكن على ذات القدر من التشوق المتفائل للناتج النهائي، بقدر ما كنت أرى الإصلاح حالة ذهنية ونفسية إن وجدت، فلا محالة لتجسيداته النهائية أن تتنزل عاجلاً أم آجلاً، ومعلوم أن مقتضى الحال لا يدع للعاجل من جليل فرصة. فالإصلاح في الأساس هو إزكاء للحساسية الذاتية تجاه القيم والمبادئ الكلية، وإعلاء لمبدأ العدل وطلبه وإطلاق لطاقة الفكر والنظر، وتحرير للإنسان من إسار الخوف والجهل والجمود. فكل إصلاح جدي يعمل إلى فضح الأسباب الكامنة والمعقولة خلف الانحراف ويحدد ممكنات الحل والممارسة البديلة الأقرب للفلاح. فاستنادا إلى هذا الفهم لما هية الإصلاح نكون كم أصبنا خيراً كثيراً، وأكاد أجزم وفقاً للنواميس الضابطة لحركة التأريخ والأشياء، أن إصلاح الحركة الإسلامية وما يرتبط بها من مؤسسات، قد أضحى مساراً حتمياً جبرياً لا مجال للحيد عنه حتى لمن أبى. لكن ما يورث الأسى والأسف في آن، هو أن ترى عقلاً إسلامياً حركياً مستنيراً اختار طريق الاستقالة، فاستقالة العقل هو أن ينزع إلى تبرير الواقع وتكريس القائم وتعطيل ملكة النقد فيه، على غرار وصف ما حدث في مؤتمر الحركة الثامن لمجلس الشورى بأنه «مبرأ من كل عيب»، أو النزوع المنهجي لمحاججة الأفكار بالإجراءات الاعتسافية لهدف «المصادرة بالتبني»، وهو العمل للسيطرة على كيان ما، بهدف تجميده وتفتيته وليس تطويره وتحقيق أهدافه، والقصة المشهورة التي حدثت في أخريات ثمانينات القرن الماضي في جمعية الفنون بجامعة الخرطوم، هي مثال نابض لهذه الحالة، حيث عملت مجموعة بالاتجاه الإسلامي إلى السيطرة على جمعية الفنون لهدف تعطيلها وقد نجحوا في ذلك. لكن الذي حدث أنهم أوردوا في خطاب الدورة النهائي أن أحد إنجازات الدورة كان إصلاح ريشة الطرمبيط، وكان من الطبيعي أن اعترضت مجموعة من الطلاب أن الطرمبيط ليست لها ريشة أصلاً، فطرحت مجموعة الاتجاه الإسلامي الأمر برمته للتصويت، ولهول المفاجأة فقد فازوا بالأغلبية الميكانيكية الساحقة على الذين تجرأوا وقالوا إن الطرمبيط ليست لها ريشة أصلاً! من الآراء التي استوقفتني، هو ذلك الرد العجول للشيخ عبدالرحمن نورالدين على بيان دكتور غازي الذي حرر فيه مناط الاختلاف ومبررات إحجامه عن الترشح في مجلس الشورى لمنصب الأمين العام. فجملة الرد يقوم على فرضية أن مجلس الشورى كان «مبرأ من كل عيب»، وعلى الكل بعد ذلك التسليم التام لمخرجاته التزاماً بأدب الشورى والجماعة. وهنا تكمن المشكلة وغبش الرؤية. فالاعتراض لم يكن في الأساس على السلامة الإجرائية، وإن كان قد تم احترامها في مستويات أخرى «شورى ولاية الخرطوم»، وإنما في توافر شروط الصحة للممارسة الشوروية عينها التي تضمن بأنها ممارسة تنم عن اختيار حر انعقد بعد تقليب مستفيض للآراء جرحاً وتعديلاً وموازنة للبدائل، وليس محض إكساب بارد للشرعية لقرارات متخذة أصلاً من قبل قلة استأثرت بالقرار، مستقوية لذلك بأجهزة الحركة ومؤسساتها. فأهل السياسة والقانون يعلمون أن ما يفرغ الممارسة الديمقراطية والشورية من مضمونها وينزع الرضى ملاك الشرعية من نواتجها هو «التحيز البنيوي»، وهو الوضعية التي تنتج من تركيز أدوات السلطة والتأثير عند مجموعة بعينها، أو عدم عدالة الفرص للوصول للمعلومة والقدرة على التواصل المتكافئ داخل المنظومة مالكة القرار. لذا تعمد كل الممارسات الديمقراطية الراشدة إلى إزالة جميع أشكال التحيزات البنيوية بقوة القانون والرأي العام من جانب، وإعمال التحيز الإيجابي من جانب آخر، بغية تجاوز تشويهات التحيزات البنيوية على مخرجات العملية الديمقراطية، وتحقيقاً لمبدأ أن المسلمين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم. لكن الذي حدث في المؤتمر العام كان تحيزاً سلبياً بامتياز، حيث صودر حتى حق التعبير لمن يظن أنهم يملكون رأياً مخالفاً، بل ذهب الأمر إلى إشاعة جو من التخوين يجعل من التصويت لصالح التعديل اتهاماً للنوايا، ودليلاً على عدم ثقة القاعدة في القيادة، ومحاولة لإحداث انشقاق. وإحجام دكتور غازي عن الانتصار لرأيه عندما واتته الفرصة، أدب جمّ وحرص على إزالة بذور عدم الثقة ورم ما تهتك من أواصر الإخاء الذي بدأت نذره تتلبد في أجواء المؤتمر، ولقد مازحت الدكتور غازي بعدها بأن كنت كأبي موسى الأشعري يوم التحكيم، فبحرصه على حقن دماء المسلمين ووحدتهم ضيع فرصة الانتصار لإمامه، كما ضيعت علينا فرصة الانتصار لرأينا. وفي سبيل إزالة الصدامية الحادة التي فرضت من قبل القيادة على مجريات التداول حول القيادة العليا، ومكان انتخاب الأمين العام، فقد نحى دكتور غازي إلى ذكر أن «المسألة برمتها تقديرية وليست توقيفية» يعني أنه لا حكم منزل فيها من السماء، ولكن اعتبارها مسألة تقديرية لا يبيح أن تكون مخالفة للقانون والأعراف الدستورية. والصيغة المقترحة للقيادة العليا الآن تظل مخالفة للقانون والدستور، والذين يصرون عليها لم يقدموا لنا رداً موضوعياً على النقاط التي أوردنا في أكثر من موقع حيثيات مخالفتها للقانون والدستور، وبأنها ستضعف كلاً من الحركة والمؤتمر الوطني. والمسألة التي تتجسد فيها الحالة المفزعة التي أشرت، استقالة العقل المستنير- هو قانونية الحركة وضرورة تسجيلها، فلنفرض جدلاً أن هناك كيانات في الساحة السودانية غير مسجلة، هل ذلك مبرر كافٍ مبيحٌ لعدم التسجيل؟ فمنذ متى كانت مرجعية الحركة ونموذجها الهادي ممارسات كيان الختمية والأنصار، ولو كان ذلك كذلك، لما كان هنالك مبرر لوجود الحركة أصلاً. فهي التي أتت لترشيد الممارسة الإسلامية وتحديثها انضباطاً بأطر القانون والدستور. بل أضحى واجبها وهي القيِّمة على بناء دولة الشريعة، أن تؤكد على حكم القانون والمؤسسات من خلال العمل وفق النظم والقوانين الضابطة لحركة الكيانات الدعوية والاجتماعية والسياسية. أو أن تصبح الحركة نموذجاً شاخصاً للفوضى وإضعاف سلطة القانون مما يهدد كيان الدولة ووجودها. فضلاً عن ذلك، فمعلوم أن الخطأ لا يبرر الخطأ أو يجوز تكراره، بل يوجب إنكاره وإصلاحه، وحالة تطبيع الخطأ واستبشاع الحق لهو من أخطر الأمراض التي أصابت جسم الحركة، وهو من العلل التي تجر الاستبدال. فالقوم الذين وقع عليهم العذاب ليس لارتكابهم الفواحش فحسب، لكن لأنهم ذهبوا أبعد من ذلك بأن انقلبت عندهم معايير الأخلاق والفضيلة بأن قالوا «أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون» الأعراف82، وما يدعو للعجب، أن التدثر بمنهج السوابق الذي أبنَّا ما به من عوار، لا يسعف المحتجين به، لأن الحقيقة الصادمة التي يهرب منها إخواننا ويزيفونها بقصدٍ ومن غير قصدٍ هي أن الهيئتين «الختمية والأنصار» مسجلتان بالقانون باعتبار أنهما جمعيتان دينيتان دعويتان. أضف إلى ذلك لم تدع هيئتا الختمية والأنصار الحق في إنشاء أحزاب، فلا هيئة الأنصار والختمية هي التي أنشأت بقانونها الخاص حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي كما ينص دستور الحركة. أما ما أورده الشيخ عبد الرحمن نور الدين من مقارنة بين السيد أحمد الميرغني والسيد الصادق المهدي والسيد رئيس الجمهورية، فهي مقارنة مردودة، وقياس فاسد، لأن السيد أحمد الميرغني عندما كان رئيساً لمجلس السيادة لم يكن في ذات الوقت رئيساً لهيئة شؤون الختمية، كما أن السيد الصادق عندما كان رئيساً للوزراء لم يكن رئيساً لشؤون الأنصار ولا إماماً لهم. مهما يكن من أمر، لم يجب الإخوة الكرام على الأسئلة الأساسية التي نجمت عن وضعية عدم القانونية المتمثلة في كيف للحركة اكتساب شخصيتها الاعتبارية كشرط لازم لأهلية التفاوض والتعاقد والتقاضي وفتح حسابات بنكية خاضعة للمحاسبة والمراجعة القانونية؟ إن أهم ما أحدثه المؤتمر هو إطلاق صوت النقد والإصلاح من عقال المناجاة، إلى رحاب العلانية والإفصاح، وفي ذلك خير كثير للحركة الإسلامية، وتدرج محمود في مدارج النضوج تحقيقاً لقدر من الفاعلية لمؤسساتها وتجذيراً لمعاني الشورى وفقه الاختلاف، إلا أن ما أشيع من إشارات سالبة تشي بعدم الثقة في كل من امتلك رأياً مختلفاً، أو إعمال سلاح الإقصاء لمن مارس حقه في الاختيار الحر بعيداً عن الترتيبات المسبقة، لهي الحالقة التي تنذر بذهاب الريح وتصدع البنيان، ولا سبيل لدرئها إلا بتأكيد مبدأ الإخوة وتفعيل آليات المحاسبة التي لا يكفي أن تقف عند ولاية الخرطوم التي تأكد وقوع أكثر من ثلاثين مخالفة فيها وفقاً للجنة التحقيق، فمن الأوفق إذاً أن تواصل لجان التحقيق والمراجعة جهودها لتقصي مجمل الممارسة الشوروية للحركة حتى تزيل الركام الهائل من عدم الثقة الذي أفرزه المؤتمر الثامن وتداعياته. برغم ذلك، يجب أن لا تصرفنا القضايا الفنية والإجرائية على أهميتها لكونها المفصحة عن منظومة القيم والأفكار الكامنة خلف السلوك عند اجتراح الحلول للتحديات الكلية للحركة المتمثلة في استعادة مشروعيتها الأخلاقية وتجديد مكونات فكرها وخطابها ليتناسب وتطلعات وأسئلة الأجيال الصاعدة المنفتحة على الفضاء العولمي الطاغي، واستحداث وسائل مستمدة من متاح العصر وممكناته حتى نؤسس لتاريخ الحركة الإسلامية الجديد. ولكيما يتحقق ذلك، لا بد من الوعي والاعتراف بأن التباين هو أساس الوحدة، وأن التدافع الصادق هو مصدر الحرية والإبداع ورافعة التقدم والنهوض، فلنقبل إذاً بحقيقة أن من الطبيعي أن نختلف، لكن من الحكمة أن نحتفي بالاختلاف.