مولانا الأستاذ فتحي خليل محمد خليل والدكتور عبد الله سليمان العوض وشيخنا الأستاذ د. أحمد علي الإمام عرفتهم عن كثب وافتقدتهم بحق. كانوا من الأتقياء الأخفياء الذين يألفون ويؤلفون، لا أزكيهم على الله. عاصرتُ الأستاذ فتحي خليل المحامي منذ أكثر من ثلاثة عقود.. في مطالع ثمانينيات القرن الماضي كنا نلتقيه على الخط الساخن في الهاتف ليعالج معنا الإشكالات والملابسات حول القوانين واللوائح في دائرة نقابات المهنيين، على الخصوص نقابة الأطباء البيطريين. كان بحسه القانوني ولباقته يرد علينا في أدب ووقار، مقدماً الوصفة المنصفة والرد البليغ. افترقنا لحين إذ ابتُعث مندوباً دائماً للمنظمات الأممية الزراعية بروسيا وبعد العودة من إيطاليا في سبتمبر 2005م جمعتنا كثير من المواقف الاجتماعية والسياسية، فللدفاع عن الأخ الرئيس البشير مع افتراءات محكمة الجنايات الدولية كنا نلتقي الأستاذ فتحي خليل في ردهات المؤتمر الوطني ونسهر معه حتى الصباح ومعنا نفر غير قليل من الإخوة الأوفياء المخلصين. كان فتحي خليل يُصيغ الردود القانونية في حكمة وصبر وأذكر أنه أعدّ رداً في ثلاث وخمسين نقطة قانونية باللغتين العربية والإنجليزية بعثناها توّاً لرئاسة المحكمة في لاهاي، ويسقط في أيدي موريس أوكامبو العميل اللعين.. كان ذلك العمل الناضح المُفحم قرب نهاية ولايته الثانية نقيباً للمحامين وانتخابه من ثمّ والياً للولاية الشمالية. محطات في رفقة الراحل المقيم وأنا وزير في حكومته ونائب للوالي، تحركنا يوماً من وادي حلفا مسقط رأسه مروراً بعدد من المدن والقرى للوقوف على حال الأهل وظروف معيشتهم. في بلدة صواردة، في خاطري مشهد محفور في الذاكرة. كان الاستقبال متفرداً والحديث متميِّزاً. رئيس اللجنة الشعبية لا أستحضر اسمه القى كلمة ألهبت حماس الحضور وهتافات بالعربي والرُّطانة.. قال عن فتحي إنه في صدقه كأبي بكر وفي عدله كعمر وفي حيائه كعُثمان وفي شجاعته كعلي ابن أبي طالب. لم أقل له لقد بالغ ابن عمكم ولكني همست في أذنه وهو في أشد الحرج والانقباض مما سمع «وفيك من خلق المصطفى صلى الله عليه وسلم أخي فتحي ولا أزكيك على الله. كان كثير الملامة لنفسه والعتاب لزملائه في حكومة الولاية أمام شكاوى وظلامات المواطنين. كثيراً ما يردد «يا إخواني هذا المواطن البسيط المغلوب على أمره وقف معنا ومنحنا صوته في الانتخابات من خلال وعدنا له بأننا سنفعل له كذا وكذا فماذا قدمنا له؟! محطة أخرى لمست فيها خلق فتحي وإخلاصه وصبره. بدعوة من الابن عبدالله حبيب مختوم وآخرين عن «الحركة الإسلامية» وصلنا إلى دنقلا حاضرة الولاية الشمالية في معية الأخ الكريم والصديق القديم عبد الله إبراهيم فكي. في مركز الشرطة الشعبية انتظم لقاء الإخوة والأخوات. شاركنا وزير التخطيط العمراني نائب الوالي الأخ إبراهيم الخضر، وخاطب الاجتماع «بعد أن أُعلن أنه هو والأخ عادل خضر وزير الزارعة تم انضمامهما للحركة الإسلامية وكان الترحيب بالتكبير والتهليل». وصل الأخ الوالي متأخراً قادماً من الجارة الشقيقة مصر وأصرّ على مخاطبة إخوانه مرحِّباً ومبشراً بمخرجات رحلته. قابل خيرت الشاطر «الإخوان المسلمين» والتقى محمد مرسي رئيس الجمهورية. جاء بوعود كثيرة تبشر بالتعاون في مجالات متعددة كالتعليم والزراعة والسياحة وإلخ.. محطة أخرى وللأسف كانت الأخيرة بعد أسبوع من اللقاء أعلاه. رسالة هاتفية من مقر السيد محمد الإدريس ببلدة «بدين». على الخط الحفيد مازن عثمان قورتي، وأنا في كافتيريا بالخرطوم بحري في معية الأخ القادم من الدوحة مولانا أحمد محجوب إبراهيم «كادر ختمي ومن المتيّمين بالسيد الميرغني». يا مازن؟؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!! وماذا تضيف الإجابة قارئي الكريم؟؟ الولاية الشمالية من أقصاها إلى أقصاها بكت فتحي خليل وصلّت على جثمانه بمدينة دنقلا.. الخرطوم هرُعت بكل محلياتها تُشيّع الراحل المقيم. رحمةُ الله ومغفرته ورضوانه عليك يا فتحي خليل. لما يمضِ يوم بعض يوم على وفاة الأخ فتحي حتى هاتفني الأخ السفير ربيع حسن أحمد من مقابر بحري مخبراً بوفاة أخينا عبدالله سليمان العوض.. مضى الأخ عبدالله بلا ضجّة فقد أقعده المرض لفترة طويلة.. وغاب الناس عنه بغير قصد. احتكاكي به عندما كان مديرًا للوكالة الإسلامية الإفريقية للإغاثة. طموحاته كانت كبيرة. فكثيراً ما خاطبنا في مجلس الإدارة بأنه لا بد من النهوض بهذه المؤسسة لتصبح الوكالة الإسلامية للإغاثة للعالم أجمع وليس لإفريقيا فقط.. بجهوده المخلصة وتعاونه مع إخوة أوفياء وقفوا معه؟ د. هاشم علي محمد خير د. سعيد عبد الله، أستاذ عطا المنان، د. كمال الزاكي وآخرين تم له ما أراد. وتجاوزت الوكالة إفريقيا لتغيث الملهوف وتنشر الدعوة بلا ضجيج إعلامي في أرض الله الواسعة. بعد الوكالة انتقل المرحوم بإذن الله لهيئة الصحة العالمية مندوباً وممثلاً لها في بعض الدول العربية والإفريقية.. سخّر جهوده وإمكاناته لنصرة هذا الدين وكان له ما أراد بحمد الله وتوفيقه. نسأل الله أن يبارك في عقبه ويجعل الفردوس متقلبه ومثواه بقدر ما قدم للإسلام وأنجز. كان للشيخ الجليل أ. د أحمد علي الإمام القدح المعلى في تطوير جامعة القرآن الكريم والدراسات الإسلامية وأنشأ مجمع الفقه الإسلامي. علمَّ القرآن للصغار وكوَّن كتيبة النَّاضجين من الحفظة المجاهدين أول من قلده رئيس الجمهورية منصب مستشار شؤون التأصيل، فكان نعم المستشار ولا فخر.. كان للفقيد صولات وجولات في مجال الدعوة والتدريس بالجامعات الوطنية والأجنبية. ولقاءات متعددة بالجاليات.. أوربا وأمريكا نموذجاً، كان له برنامج تلفزيوني ودرس راتب في مسجد الشهيد بالخرطوم باسم «مفاتح» لتفسير القرآن الكريم، والذي انتهى بإصداره «مصحف إفريقيا» وحاشيته مفاتح فهو القرآن. في التاسع من رمضان 1427 أهداني نسخة شخصية ممهورة بقلم أخضر، تقرأ «هديّة موّدة مقرونة بالدعاء إلى الأخ الكريم بروفسير محمد سعيد حربي، حفظه الله تعالى ونفع به الأمة. اللهم آمين اللهم آمين أخي أحمد، جعلني الله عند حسن ظنك بي.. . مجاهدات العالم الجليل في سبيل الله ولحفظ بيضة الدين ونصرة الله لا تحصى ولا تعد. رحمك الله رحمة واسعة وألزم أهلك ومعارفك الكثر الصبر الجميل يا خير الأسماء «أحمد»!! حاشية: إخوتي في الله.. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب إنا بكم والله لمحزونون.. رحيلكم مُر كالعلقم وكالغصة في الحق.. وحسبكم أنكم رحلتم إلى الرفيق الأعلى راضين مرضيين.. مغفور لكم بإذن الله.. وبما أن «المرء مع من أحب» كما جاء في الأثر فإنّاَ على دربكم سائرون وعلى العهد باقون.. ونشهد الله على ذلك والله خير الشاهدين.