الدخول إلى قبة البرلمان أمرٌ تحكمه شرعية الناخبين وحق يؤديه النواب بضمير حي ومتيقظ وبقدر ما إن الشعوب أو بالأحرى الناخبين يعقدون الآمال العراض في أن يجدوا من ينقل للحكومة أصواتهم وأنَّاتهم إلى العقل الحاكم في الدولة بكل تجرد وشفافية فإن الحكومة نفسها في حاجة إلى من يقوِّمها ويعيدها إلى جادة الطريق إذا حادت عنه أو فقدت بوصلتها فإن الرقيب هو الذي يحدِّد لها المسارات ويرسم لها شرائعها وإطارها القانوني وتوجهاتها الفكرية والسياسية هذه هي طبيعة العلاقة وحدودها ومنطلقاتها.. والاستثناء هو أن تختل المسارات وتتجه الأمور بعكس ما هو محدَّد لها، وبالطبع المعادلة تختل حينما يسيء نواب الشعب فهم المقاصد العليا للممارسة البرلمانية ويعمدون إلى اختزال هذه الممارسة في مكاسبهم الشخصية فتتضخم ذواتهم فيعبرون عتبة البرلمان إلى داخل القبة عبر فهم تجاري ذاتي بحت وينظرون إلى المقعد النيابي كغطاء أو سند سياسي لتأمين مشروعات تجارية أو استثمارية ينشغلون بها كثيرًا ويهملون حق الناخبين بل إن علاقاتهم مع قواعدهم تنتهي بانتها مراسم الدخول إلى قبة البرلمان. والقناعة التي يتكئ عليها مثل هؤلاء النواب أن التجارة أو الرأس مالية لا تحميها القوانين ولا السياسات بقدر ما إن أمنها وأمانها يأتيها من تحت مظلة السلطة والسند السياسي وأن الانتماء للبرلمان حصانة ونفوذ وفرصة للتحرك في فضاءات جديدة لعقد الصفقات وبناء العلاقات مع أذرع الجهاز التنفيذي ومؤسسات الدولة الأخرى فتنشأ الحميمية وتتداخل المصالح فالذين أفلحوا في كسب ود السلطة واحترامها انتعشت تجارتهم وتوسعت مشروعاتهم والعكس تمامًا هو مصير كل من خرج من تحت هذه المظلة أو الذين نأوا بأنفسهم ورفضوا الدخول أو المشاركة في أي من مؤسسات الدولة فكم من البيوتات التجارية الشهيرة تلاشت وانهارت بناياتها وانزوت أسماء عديدة لرجال مال وأعمال كانت لهم أمجاد في سوح المال والاقتصاد. تحدثت كثيرٌ من التقارير أو ربما أشارت بوضوح إلى أن القضاء ظل يلاحق عددًا من ملفات الفساد الحساسة والتي بحسب اعترافات رئيس لجنة الحسبة والمظالم بالبرلمان الدكتور الفاتح عز الدين أن هناك حوالى «65» ملف فساد وضعت عليها اللجنة يدها هذا أقصى ما يمكن أن تكشفه اللجنة من معلومات وحقائق لأنه إذا مضت هذه اللجنة في ذات الاتجاه فإن رؤوسًا كبيرة ستسقط عنها الأقنعة وهذا ما تخشاه الحكومة أن ترى منسوبيها أمام الرأي العام وهم غارقون في بحور الفساد خصوصًا إذا تحدَّثنا عن مشروع إسلامي في السودان ولهذا أثرت اللجنة ألا تكشف كل الحقائق عن ملفات الفساد ولكن يبدو أن الحكومة تسعى لمعالجة هذه الملفات عبر التسويات أو الصفقات المغلقة. ولأن الممارسة البرلمانية تعتمد في الأساس على نزاهة النواب وقدرتهم على التعبير وبإرادة قوية عن قضايا ومكاسب قواعدهم الجماهيرية فإن الأمر المفروض عليهم أن يكونوا أوفياء للذين منحوهم شرعية الدخول إلى قبة البرلمان إبان مواسم السباق الانتخابي فالقراءة المنطقية لواقع هؤلاء الناخبين أن من أوكلوهم هذه المهمة تاجروا بأشواقهم ودخلوا السوق من أوسع أبوابه وبنوا لأنفسهم مجدًا من القوة والعتاد الاقتصادي ولكن غيرهم انتكس فسقط في التجارة بمثل ما سقط في امتحان الأداء النيابي.. بعض التقارير التي كانت قد بثتها المحاكم تقول إن أكثر من «170» من البرلمانيين متورطون في قضايا شيكات مرتدة وأن القضاء السوداني نفسه ظل يطالب البرلمان رسميًا بسحب الحصانة عن عدد من نوابه توطئة لمقاضاتهم لتورطهم في قضايا فساد حساسة باعتبار أن الحصانات التي يتمتع بها النواب تعوِّق مسار القضاء. ربما يكون هناك نواب صادقون في طرحهم سعوا كثيرًا إلى إيصال صوت جماهيرهم إلى حيث منبع السلطة والقرار في الدولة إلا أن التيار الغالب والقوي أو بالأحرى «الملتزم» هو الذي يفرض نفسه بقوته الميكانيكية ليس بالضرورة أن يكون الرأي الغالب مع الإرادة الغالبة لعموم أهل السودان ولكن بالضرورة أن يصب هذا الموقف في ماعون الحزب الغالب في البرلمان. هؤلاء النواب وحتى على مستوى قيادتهم جنحوا كثيرًا في اتجاه البحث عن مكاسب خاصة داخل البرلمان ووضح ذلك من خلال المساجلات التي شغلت النواب فيما يلي مخصصاتهم ورواتبهم ومطالبهم الأخرى وحتى رئيس البرلمان نفسه كشفت التقارير أنه حاول الاستقواء بسلطانه من أجل مخصصاته وراتبه الشهري. فإذن المنطق التجاري أو الكسب الذاتي الذي عبره ومن أجله اقتحم النواب البرلمان هذا يعتبر أحد أبرز مسببات العجز والسقوط التشريعي طيلة سنوات الإنقاذ ولكن العجز أو الفشل الأكبر يتجلى الآن بوضوح في ممارسة النواب في برلمانه الحالي ففي الوقت الذي تعاظمت فيه المسؤولية على النواب لتجاوز مرحلة عصيبة ومفصلية من تاريخ السودان السياسي والاقتصادي يسقط البرلمان ويعجز تمامًا عن أن يرسم لذاته دورًا أو حقًا يحفظه له التاريخ وهذا هو الاعتقاد الذي بات يشكل شعورًا عامًا وراسخًا لدى القوى السياسية السودانية بكل مكوِّناتها بما في ذلك مجموعات نافذة داخل مفاصل الحكومة نفسها ولهذا ظل البرلمان طيلة حقبة الإنقاذ في مرمى نيران الخصوم يقدحون في تجربته ويصفونه بأنه مجرد واجهة أو ذراع حكومي لا تتعدى مهمته دور المباركة والتأييد للحكومة في كل أشكال أدائها التنفيذي، فالحكومة بالنسبة للبرلمان عادلة حتى لو مارست الظلم على شعبها، فالشيخ الداعية عبد الحي يوسف صوَّب انتقادات حادة للبرلمان ووصفه بأنه برلمان بلا محتوى وبلا وجهة وأنه في وادٍ والشعب في وادٍ آخر.. نواب يبحثون عن قضايا ليست هي قضايا مواطنيهم.