دخلت فرقة طيور الجنة الغنائية للأطفال وجدان أطفالنا وتربعت في مساحة واسعة منه مكتسحة بذلك العديد من الفرق التي سبقتها في المجال. خاصة بعد أن أطلقت في العام ألفين وثمانية القناة الفضائية الخاصة بها من دولة البحرين، ثم ألحقتها بقناة أخرى للأطفال الأقل عمرًا (ما دون السادسة)، والقناتان تبثان برامجهما (وهي بمجملها أغنيات للأطفال) على مدار الأربع والعشرين ساعة. وبرغم أن القناتين أصبحتا مصدر قلق للكثير من الآباء والأمهات بسبب ارتباط الأبناء بهما ارتباطًا وثيقًا تفوق على ارتباطهم بالكثير من قنوات الأطفال الأخرى التي أصبحت جزءً أصيلاً من ثقافة الطفولة الآن، برغم هذا الارتباط الذي يبعث على القلق كون أنه ربما يأتي خصمًا على التحصيل الدراسي الذي أصبح يشكل هاجسًا لكل الأسر في ظل وجود مغريات كثيرة يمكن أن تعمل على تشتيت انتباه أبنائنا عن دراستهم. نقول برغم ذلك إلا أن ما يقدم على القناتين من قصائد ملونة بألحان طفولية جميلة وبوسائل الإبهار السمعي والبصري وبلغة عربية فصحى عالية وبأهم من ذلك بمحتوى غني بالقيم الإسلامية والمثل و(الأمثال العربية الجميلة) وحتى من أغانٍ ترفيهية وتعليمية عن كل شيء ابتداء بالخضروات والفواكه وغيرها وليس انتهاءً بما هو أكبر من ذلك بكثير، كل هذا مما يقدم على القناتين يعد شيئًا رائعًا وجميلاً ويفتح مدارك الأطفال على أشياء كثيرة ويقدم النصيحة مهما كانت في شكل جميل ومقبول، بل ويفتح الكثير من أبواب الأسئلة في مخيلتهم والتي هي من أهم الوسائل التعليمية في المراحل الأولى من العمر. بل إن بعض الأمهات والآباء أصبحوا الآن يحفظون مع أطفالهم بعض كلمات هذه الأهزوجات ويجدون متعة في ترديدها معهم. لقد نجحت تجربة طيور الجنة عربيًا لأنها ارتبطت بالقيم العربية والإسلامية ففتحت لها الأبواب على امتداد أوطان الناطقين بالعربية في كل مكان في العالم. وعلى هذا فقد أحيت الفرقة العديد من الحفلات الجماهيرية في العديد من الدول.. وظل أطفال السودان مثلهم مثل كل طفل في أي دولة عربية ينتظرون وصول الفرقة لتؤدي لهم على أرضهم ويروها عيانًا وليس عبر الأثير فقط، وهكذا ما إن تم الإعلان عن قرب وصول الفرقة إلى السودان حتى كانت هي حديث كل طفل، ووعد كل أو معظم الآباء والأمهات بمحاولة تمكين أطفالهم من حضور الحفل... وبرغم الفئات العالية التي حُددت للتذاكر مع الأخذ في الاعتبار بالوضع الاقتصادي المتأزم الذي يعيشه الناس، معظم الناس، إلا أن الكثيرين وتحت إلحاح أطفالهم الذين لم يكونوا ليقتنعوا بشيء غير الحصول على تذاكر تخولهم حضور الحفل، فعلوا المستحيل من أجل توفيرها، ولكن كانت الخيبة هي كل ما حصدوا بعد أن ذاقوا الأمرين في الحصول على تذاكر الحفل التي دخلت السوق الأسود مثلها مثل كل شيء آخر ولم تشفع براءة الأطفال الذين هم معنيون بالحفل عند أصحاب النفوس الضعيفة الذين أخذوا يزايدون في قيمة التذاكر بل إن البعض قد قام بتزويرها ليتضاعف عدد الحضور من حاملي التذكرة ذات الرقم المتسلسل نفسه، كما أن تنظيم الدخول للحفل قد شابه إخفاق كبير، وكان التدافع عبر بوابات الدخول والتي علتها سحب الغبار نسبة للتدافع والزحام الشديدين، كان شيئًا لا يليق أبدًا بالأسر وأطفالهم الذين كان من المؤمل أن يتعلموا النظام والانضباط والتصرف الحضاري في مثل هذه التجمعات، ولكن ضاعت كل المعاني التربوية التي كان من الممكن أن تغرسها مثل هذه التجربة في وجدانهم خاصة أنه تقريبًا يعد أول حفل أطفالي جماهيري بهذه الضخامة، لقد ضاع جمال تجربة كان يمكن أن تبقى عالقة في أذهانهم لفترة طويلة. ثم من بعد كل ذلك الرهق انفض الحفل قبل حتى أن يبدأ بصورة كاملة، وأعلنت الفرقة عدم إمكانية الاستمرار حفاظًا على سلامتها وسلامة الأطفال الحضور وطالبت الجميع بالتوجه نحو بوابات الخروج بنظام حتى لا يحدث مكروه لأحد، ومن ثم خرجت الفرقة تحت حماية الشرطة. لقد فشلت الجهات المنظمة للحفل في إعداد مسرح يليق بجمهور كانت تعلم مسبقًا ضخامته اعتمادًا على مبيعات التذاكر التي نفدت جميع فئاتها قبل أسبوع كامل من تاريخ الحفل. وفشلت في تأمين مكان الحفل وتنظيمه بصورة تضمن سلامة الأطفال وأسرهم في تجمع غالبيته أطفال، وكان يمكن أن تحدث فيه كارثة لولا لطف الله. ولم توفق أيضًا في اختيار زمان ومكان الحفل فلا الإستاد هو المكان المناسب لهكذا حفل ولا الزمان(الليلي) مناسب كذلك للأطفال، بل ولم تنجح في إعداد الإستاد إعدادًا فنيًا حيث غابت الشاشات عن جنبات المكان (اللهم إلا واحدة فقط في ركن قصي)، مما حدا بالجمهور إلى اختراق الأسوار والحواجز والاقتراب من المنصة من أجل رؤية الفرقة وهو ما أدى إلى ابتعاد الكثير من الأطفال عن ذويهم فأدخل الرعب في نفوسهم وطفقت مكبرات الصوت تنادي على (المختفين) من الأطفال طيلة الوقت، غير ما سببه ذلك من فوضى داخل أرض الإستاد التي امتلأت عن آخرها وتسببت في انهاء الحفل. إن الفشل الذي صاحب حفل الفرقة في الخرطوم رافقه نجاح محمود للمنظمين في حفل بورتسودان ضمن فعاليات مهرجان التسوق الذي كان بعده بيوم واحد فقط، ولكن شتان ما بين الاثنين. فيا ترى ما الذي أدى إلى الاختلاف؟؟ لقد أجرت إحدى صحف الأمس لقاءً مع إادارة التسويق بشركة التلال الخضراء التي تعاقدت مع الفرقة لإحياء الحفلين في السودان لاستجلاء الحقائق حول ما حدث ولكن إجابات الإدارة لم تشفِ الغليل بل وكانت في غالبيتها مبهمة جدًا!! كما أن السؤال الجوهري لم تتم الإجابة عنه وهو فيما يتعلق بالأموال التي تم حصدها من الجمهور دون أن تلتزم الشركة بما تعاقدت عليه معه بموجب التذكرة التي دفع قيمتها كاملة. وقد زادت مساحة الغموض بإجابات مبهمة هي الأخرى من قبل سكرتير الاتحاد المحلي لكرة القدم وهي الجهة التي يتبع لها الإستاد مسرح الحفل، حيث استنطقته الصحيفة في رأيه عما حدث ولكن كانت إجاباته غامضة ولم تثبت شيئًا سوى أن الإخفاق الذي صاحب الحفل كان متوقعًا نسبة للكثير من الأخطاء الإجرائية. لقد عاد أغلبية الأطفال إلى بيوتهم في تلك الليلة وهم يتجرعون الكثير من المرارة في حلوقهم، بعد أن ملأهم الإحساس بأنهم ليسوا مثل بقية الشعوب التي زارتها الفرقة قبلاً وأحيت بها حفلاتها فأي رسالة استطاع منظمو الحفل تبليغها إلى أطفالنا وأي فكرة استطاعوا زرعها في عقولهم عن وطنهم ومواطنيهم.. ناهيك عن أعضاء الفرقة الزائرة الذين خرجوا من الإستاد في حراسة الشرطة والدموع تملأ مآقيهم؟