تعيد أمريكا والدول الغربية تطبيق تجربة الكونغو في السودان، وذلك مع بعض التعديلات، حيث تم فصل الكونغو إلى دولتين مع استمرار الحرب الأهلية. لذلك ينبغي قراءة سيناريو الكونغو، للمقارنة، عند دراسة الأوضاع السياسية الجارية في السودان. ترجع جذور الزعزعة والحرب الأهلية ومنطقة البحيرات إلى بداية الستينيات من القرن العشرين، بانفجار أزمة الكونغو. ونال (الكونغو) استقلاله من الاستعمار البلجيكي في 30/ يونيو1960م. وأصبح الزعيم الوطني (باتريس لوممبا) أوّل رئيس وزراء كونغولي. وشارك بالحضور في مناسبة الاحتفال باستقلال الكونغو في 30/ يونيو 1960م، (جلالة) الملك البلجيكي، حيث ألقى باتريس لوممبا في حفل الاستقلال خطاباً ثورياً مضيئاً. وكان الزعيم الوطني (لوممبا) قائداً ملهماً عميق الإيمان ب (القوميّة الإفريقية). وكان واحداً من منظومة نجوم الزّعماء الوطنيّين الثوريين الأفارقة من أمثال جمال عبد الناصر في مصر،(نكروما) في (غانا)، (أحمد سيكوتوري) في غينيا، و(موديبوكيتا) في (مالي) وأحمد بن بيلا في الجزائر، ونيلسون مانديلا، في بداياته النضالية، في جنوب إفريقيا. ثمّ من بعد أولئك الزعماء النجوم جاء (روبرت موغابي) في روديسيا الجنوبية (زيمبابوي)، و(جوشوا أنكومو) و(سام أنجوما)، و(أوغسطينونيتو) و(كابرال كرمال). كما يخرج الميلاد من الموت، والضياء من الظلام، كذلك إفريقيا الخصيبة قادرة على إنجاب منظومات جديدة زاهرة من الزّعماء الوطنيين الثوريين الأحرار. واعتبر الملك البلجيكي والدول الغربيّة خطاب (لوممبا) في حفل استقلال الكونغو، نارياً جارحاً (بالمشاعر الاستعمارية). وشجب(لوممبا) في خطاب الاستقلال الترّاث الاستعماريَّ الشَّرير الآثم، والاسترقاق المذل، الوافر بالتجاهلات والإساءات لكرامة الإنسان الإفريقي، الزّاخر بالضّربات والصّفعات (التي احتملناها صباح مساء فقط لأننا زنوج). ظلت الشركات البلجيكيّة والغربيّة عقوداً طويلة، منذ مؤتمر برلين في نهايات القرن التاسع عشر، لأكثر من قرن، تنهب كنوز الكونغو من النحاس والمعادن الثمينة، وتغذي خزائن وزارات المالية في أقطارها بضرائب وفيرة، هي جزء من أرباحها الأسطورية في الكونغو. وفي حفل استقلال الكونغو في 30/ يونيو 1960م، صدم (باتريس لوممبا) بخطابه الوطني المشتعل الملك البلجيكي وممثلي الدّول الغربيّة الاستعماريّة، وصدم معهم (جوزيف كازافوبو) رجل الغرب (أمريكا) في الكونغو. ولكن بعد أيّام قلائل فقط من خطاب لوممبا في مناسبة الاستقلال في 30/ يونيو1960م، بعد أيّام قلائل فقط من الخطاب الثائر، لعبت أصابع الاستخبارات الغربية دورها، فثارت القلاقل واجتاحت الزعازع الكونغو، وبدأ صدام القبائل، وتمرّد الجنود الكونغوليّون، وعمّ الرّعب والإرهاب، وتدفق اللاجئون الكونغوليُّون إلى خارج البلاد. وصنع العملاء ذريعة التدخل الأجنبيّ. وبعد تسعة أيّام فقط من استقلال الكونغو، وفي 9/ يوليو 1960م، وضدّ إرادة الحكومة الوطنية الكونغوليّة بزعامة (لوممبا)، عادت قوّات المظليّين البلجيك وهبطت في الكونغو، بحجّة الحفاظ على النظام والأمن وحماية أرواح الرّعايا البلجيك. وهكذا بدأت عملية زعزعة الكونغو التي أنتجت الأسوأين، أي انفصال الكونغو إلى دولتين واستمرار الحرب الأهليّة منذ 9/ يوليو 1960م، وحتى اليوم! وهذا هو حال السودان اليوم، حيث نجم عن اتفاقية (السلام) الانفصال إلى دولتين واستدامة الحرب الأهلية، وحيث أصابع الاستخبارات الغربية التي تلعب دورها فتثير القلاقل وصدام القبائل واحتشاد الجيوش، وذلك ليعمّ الرّعب والإرهاب، ويصنع العملاء ذرائع التدخل العسكري الأجنبي.