إذا قدر لهذا التراب أن ينطق، لقال إن سبعة وخمسين عاماً من عمر السودان، ذهبت هباءً منثوراً، والبلاد ترزح في حلبة الاصطراع السياسي والحروب المدمرة والدم والدموع والتخلف التنموي وقصور الأدمغة الوطنية عن إدراك حقيقة النهضة ومطلوباتها، والاستقرار ومقتضياته نحو التقدم والازدهار والدخول عبر بوابة التاريخ. لو قدِّر لهذا الوطن أن يصرخ من باطن ثرواته وعميق موارده وقريب كنوزه الظاهرة والمستترة وأشجاره وطيوره وأنعامه وجباله، لصرخ صرخة مدوية، أنه بعد أكثر من نصف قرن، مازلنا نبحث عن ذاتنا وتوحدنا وانسجامنا وآمالنا التي لم نشيدها على أنقاض آلامنا. «ب» كيف ننظر عبر نافذة لا يطل منها شعاع، لآفاق تبدو بعيدة بعد أن كانت في متناول اليد، غداة رفع العلم وترديد الأناشيد وتسجيل اسم بلادنا في لوحة شرف الشعوب الحرة التي أفاقت من كراها. هناك طلسم غريب لا بد من كشفه وحل شفرته، لماذا كنا من السباقين عندما هبت رياح الحرية على شعوب العالم الثالث.. ثم أصبحنا من المخلفين بين الأمم، وقد نلنا استقلالنا قبل دول عديدة في شرق العالم وجنوبه؟! لماذا ظل هذا الشعب يتوه في متاهة الشقاء والحرب والموت والتخلف وثالوث الفقر والجهل والمرض، ويمشي كالمخبول مترنحاً في مسيره طوال هذه العقود من السنوات، ولا تطلع شمس خلاصه وتبزغ إلا لماماً؟! ولماذا بعد هذه الحقب تدور بنا وبرؤوسنا الأسئلة الكبرى.. وتعبنا لترسيخ هويتنا وتماسكنا الوطني وانطلاقتنا نحو عتبات البناء الأولى ودرجات السلم الدنيا في التقدم والتطور وبناء دولتنا الحديثة؟! «ت» هذا اليوم الذي تشرق علينا شمسه، بالطبع ليس تاريخ ميلاد لأمتنا، لكنه نقطة انطلاق قبل «57» عاماً كانت تؤذن ببداية الصعود إلى القمة، وقد عجزنا بفعل الخيبات السياسية وقصر التفكير والنظر عن التماسك، فتدحرجنا نحو الهاوية، وها نحن ننكفئ كل يوم على ذواتنا الخاسرة ومطامعنا الذاتية، ولا نعلو فوق هامات الزمن ولا نتكئ على أكتاف المجد، فكل حصادنا هو هذا الوضع المزري، لبلد يتشظى كجذع شجرة جاف، ويتناثر كذرّات الرماد مع هوج الرياح.. وقد كانت الآمال كلها أن نصل الثريا بوحدتنا ونبلغ المرتقى الصعب ببذلنا والعطاء، فإذا بالبلاد التي ورثناها مستقرة وآمنة، تكاد في فترة من الفترات تتحول بفعل جرثومة التمرد والعمالة للاستعمار الذي نُكست راياته، إلى بلد على حافة التلاشي وأمة على شفير التمزق ووطن لن يرى بالعين المجردة، إن سرى سرطان الدعوات الضالة في جسده. «ث» الدول التي نالت استقلالها معنا، وولدت حريتها توأماً لحريتنا، أين هي الآن في مضمار النهضة والتقدم والبناء؟ أين ماليزيا الآن التي نالت استقلالها معنا في ذات العام 1956م؟ أين دول القارة الإفريقية التي استلهمت طريقها نحو الانعتاق من ملامح تاريخنا وتجربتنا النضالية، أين تقف هي الآن وأين نقف نحن؟ هذا الوطن الجميل الذي تفرّق أهله أيدي سبأ في الأحزاب والتكوينات السياسية، تبدّدت كل الطموح في قلبه كأنها فقاعة صابون تلاشت في الهواء، ولمع شهاب لم يلبث طويلاً في عرض الفضاء ثم غاب وراء الظلمة الكالحة. هذا الوطن الجميل الذي داسته أقدام مطامعنا الثقيلة، بعد أن كان مرقَّشاً ومرصَّعاً بالأحلام الكبيرة، هو ذاته الوطن الذي كانت تتطلع إليه الشعوب المقهورة وتسمو إليه الأبصار، بأنه سيكون منارة يهتدي بها الحائرون وشمعة تهب الضياء في حلكة الضياع والجنون التي كانت رياحها تعصف بقارات الدنيا كلها. هذا الوطن الذي ورثناه مثقلاً بالنجوم الزواهر، وواثق الخطوة يمشي ملكاً، ما باله الآن مهيض الجناح وفي كل ركن وجانب فيه طعنة نجلاء لا يتوقف نزيفها، وعند كل منحنى قريب منه يكمن مرتبص لا يريد لنا إلا الموت الزؤام. ألا يستحق وطن كهذا أن نفكِّر فيه من جديد، وأن نعيد قراءته وتلوينه والوفاء له ورسمه في قلوبنا. في هذا اليوم ونحن نفتتح تعلية خزان الروصيرص بعد أن كانت حلماً بعيد المنال، ربما تنفرج مشكاة يطل منها عزم جديد في إعادة بناء أمة وصناعة مجد جديد.