٭ والبلاد تحتفل بالذكرى السابعة والخمسين لأعياد الاستقلال فلنقف وقفة تأمل وإجلال وتقدير لأولئك الأبطال الذين قدموا نفوسهم وأرواحهم رخيصة في سبيل عزة وكرامة هذا الوطن حتى تحقق الاستقلال على أيديهم في الأول من يناير 1956م.. فالتحية لهؤلاء الذين حررونا من تبعية وذيلية وقبضة المستعمر الى رحاب الحرية ورفع راية الاستقلال عالية خفاقة في سمائنا الدنيا. ٭ كانت المهدية جحيم النار الذي تفجر في وجه الغزاة وكان الدم وحده مهر حريتنا التي لا تركع تحت أقدام المجوس، وحين ضمخ الدم جبين كرري ظن الأوباش البيض أن جُرح الكرامة قد مات فينا ولكنه ظل في القلب وعاش ولم يمت.. هنالك إحساس وطيد وراسخ بأن الفترة ما بين «1922-1925م) شهدت ميلاد الروح الوطنية الحديثة التي قادت تاريخ أمتنا العريق حتى تحقق الاستقلال على أيديها في مطلع 1956م.. هذا ولما ملَّ السودانيون حرب الكلام أسس عبيد حاج الأمين ومعه بعض أعضاء الجمعية جمعية اللواء الأبيض لتكون درعاً وحصنًا متينًا في وجه الغاصب المعتدي وكونت الخلية الأولى من علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين وثلاثة من كتبة البوستة وسرعان ما شملت أعضاء كثيرين من الموظفين والطلاب والضباط والعمال وشيوخ القبائل وقد نص دستورها على أن هدف الجمعية هو خدمة المثل الوطنية في السودان. هذا وقد شرعت الحكومة البريطانية جدياً في القضاء على جمعية اللواء الابيض فألقت القبض على علي عبد اللطيف وحكمت عليه بالسجن ثلاثة عشر عاماً وأعفت عبيد حاج الأمين من عمله فاحترف السياسة، ومن ثم تعرض أعضاء الجمعية للتشريد والنفي إلى الأصقاع النائية في البلاد وما كان هذا الا ليثير جذوة الثورة ويزيدها ناراً واشتعالاً وبدأت المظاهرات وتعتبر أول مظاهرات في تاريخ السودان الحديث، حيث انطلقت في 20 و«22» يوليو «1924م» مما دعا الحكومة لإصدار قرار يمنع التجمهر والمظاهرات لكن جمعية اللواء الأبيض لم تكترث لهذا القرار وتحدثه واستمرت المظاهرات وأكدت حساسية الوعي السياسي القومي في العاصمة المثلثة وعلى أن النصف الثاني في عام 1924م كان كارثة ماحقة على الحكم البريطاني في السودان.. ففي يوم «9» أغسطس حوالى السادسة صباحاً أثار طلاب المدرسة الحربية فزعاً جديداً للحكومة ورفضوا العودة الى ثكناتهم وخرجوا الى الشارع ووصلوا بوابات سجن كوبر وهتفوا أمامها بحياة البطل علي عبد اللطيف ودوّى هتافهم من جديد أمام مكتب مفتش مركز بحري مما دعا الحكومة إلى التفكير في إلغاء المدرسة الحربية.. هذا وشهدت مدن كثيرة المزيد من المظاهرات أُحرق فيها العلم البريطاني في بورتسودان والأبيض وعطبرة ومدني وملكال ووصل الأمر إلى تمرد الضباط في نوفمبر «1924م» والذي وقف فيه الضباط السودانيون وقفتهم الجليلة تضامنًا مع الضباط المصريين الذين رفضوا تنفيذ أوامر الحكومة البريطانية بتسليم سلاحهم والخروج من السودان. ففي يوم «27» نوفمبر «1924م» قاد ستة من الملازمين السودانيين فرقتين من الكتيبة «11» من أم درمان للانضمام إلى قوات الجيش التي كانت تحيط بالمصريين في الخرطوم بحري حيث أعلنوا تضامنهم مع القوات المصرية ورفضوا تنفيذ أوامر الضابط آرجلس وقرروا أنهم مع مصر ودوَّى الرصاص ودارت رحى معركة طاحنة بالقرب من المستشفى العسكري بالخرطوم وفي فجر اليوم التالي أذاع البريطانيون أن المتمردين قاوموا مقاومة عنيفة يائسة وأن الأمور لم تعد إلى مجاريها الا بعد أن استعان الجيش خلال أربع ساعات باستخدام مدافع قاذفة وبنادق سريعة الطلقات واستشهد في تلك المعركة البطل عبد الفضيل الماظ.. كان استقلال السودان عبر العصور مثار وحي الشعراء من أبنائه فقد نظموا فصيحهم وعاميهم قصائد وطنية سياسية يدفعهم حبهم لوطنهم وغيرتهم على شؤونه ثم نفورهم من سيطرة الأجانب وما تجره عليهم من ويلات حسية ومعنوية.. نظم كل منهم في الاستقلال وفقًا لما تقتضي الحال وطني أعود به كيوم خروجه في الخيل موردها النجيع الأحمر غمر التلال فكل تل مهجة غنى بأضلعها الرصاص الممطر وأرنّ في كرري نحاس كريهة زجل يكاد حماسه يتفطر فخراً بني وطني وإني شاعر بالخالدات من المآثر يفخر هكس تهافت في حبائل مكره وتلاه كتشنر الكفور الأعور يعلو مناكب سابح متمطر والريش من يافوخه يتحدر نسر تطلع للفضاء ودونه كرري تسيل بها الحتوف وتزخر أو ما رأى بعد الهزيمة ثورة لا تنثني وعزيمة لا تقهر البطولة هي الفداء وأن البطولة العظيمة هي الفداء العظيم وأن عنصر التضحية هو أن يكون الإنسان منظوراً في خلائقه وسجاياه لغيره، فكلما كان ذلك الغير أكبر عدداً وأشرف قدراً وأبقى أثراً كان عنصر التضحية أجل وأكرم وأغلى وأقوم وكان هذا هو مناط التفاضل بين الأبطال من جميع الدرجات والشكول.. إن الرجال الذين يخافون على أممهم الذل ويرجون لها العزة أو الذين يخافون على العالم قاطبة أن يرين عليه الرجس ويريدون له الخلاص والرفعة أو يخافون عليه الظلام والجهالة ويرجون له النور والمعرفة.. إن هؤلاء الذين يخافون ذلك الخوف ويرجون ذلك الرجاء ثم يثبتون على محنة المطامع والآلام أعواماً طوالاً، لا يلوي بهم رهبة ولا ينسون الآلام والتألم في مآزق الهول ومدارج الغواية أولئك هم عظماء الأبطال في تاريخ بني الإنسان وأولئك هم شرف الآدمية وعزاء الحياة والمعنى الذي تطيب من أجله الأرض وتنظر من صوبه السماء.. ومن هؤلاء كان الشعب السوداني الأبي البطل معلم الأمم المعتمد على الله أولاً وعلى نفسه ثانياً المتحرر من قوى الاستكبار وهذا لعمري هو الاستقلال الحقيقي في عيد الاستقلال وكل عام وأنتم بخير.