قبل أيام قليلة وفي عيد ميلاده السنوي أعلن الإمام مدّ الله في أيامه أنه يزمع التنحي وإفساح المجال للدماء الحارة والكوادر الشابة.. التصريح بالتنحي كان حدثاً وانتقالاً مفصلياً إلى أدبيات وسلوكيات غابت عن شاغلي المناصب «السياسية» في بلادنا زماناً طويلاً.. وصفق الجمهور للعبة الحلوة والتمريرة الذهبية من الإمام لبعض زملائه في الملعب السياسي.. والتفتت أنظار الجمهور «الغفير» في الملعب إلى «الزملاء» وكيفية استلام التمريرة الذهبية وهل سيحولونها إلى حالة انفراد بالمرمى أم أن خطة اللعب عندهم هي «إخفاء الكرة» في الوسط.. وانتظر الناس بعض أعياد الميلاد في بعض أحياء الخرطوم الشهيرة مثل المنشية وبحري القديمة حيث بعض «الزملاء».. مرت أعياد الميلاد وأعياد الاستقلال وأعياد رؤوس السنوات الميلادية والهجرية وعيد المولد وعيد أكتوبر دون أن تشهد تلك الدُّور الشهيرة حراكاً سياسياً من أي نوع من أي زميل! خبرات «الزملاء» التراكمية بأسلوب «اللعب» عند الإمام لأكثر من نصف قرنٍ من الزمان دفعتهم لاستلام التمريرة الماكرة في «الوسط» وعدم الاندفاع الأهوج نحو المرمى لإحراز الهدف من «تسلل» مكشوف لعلمهم أن تمريرة الإمام الحلوة جاءت من باب حديث النفس ليس إلا وأن الرجل لم «يقصد» إحراز هدف وإحداث «سابقة» سياسية وتسجيل اسمه كأول رئيس حزب «سابق» في بلاد السودان.. وكل ما في الأمر أن الصحف كعاتها «نزعت» تصريحات الإمام عن «السياق» الذي جاءت فيه واكتفت بما قال الإمام فقط ولم تسبر غور نواياه التي يبطن! أمس أعلن الإمام على الملأ أنه لن يتولى أي منصب إلا بالانتخاب! والمفهوم من هذه العبارة أن تولي المنصب من حيث المبدأ مما يجوز في حق الإمام.. وأن الأمر فقط يتعلق بميكانزيمات التولي.. نأخذ فاصلاً قصيرًا ثم نعود بكم لميكانزيمات التولي هذه.. سبق أن درسنا في المدرسة أن «لن» من نواصب الفعل المضارع و«أتولى» فعل مضارع منصوب ب «لن» وعلامة نصبه الفتحة التي منع من ظهورها التعذُّر.. وعند بعض النحويين منع من ظهورها الثِّقل.. وإن شاء الله المانع خير.. كان يمكن للتعذر أو الثقل أن يكتفي بمنع «الفتحة» من الظهور في آخر التولّي.. أما أن يتمدد التعذُّر ويصبح اعتذاراً عن وعدٍ مقطوع بالتنحي وأن يستحيل الثقل النحوي ثقلاً معنوياً يبدِّد أحلام التنحي في نفس الإمام فهذا ما لا تقوى عليه «لن» الناصبة ولا كل أدوات النصب ومعدات الاحتيال على النفس وحضها على التنفيذ.. ثم الإمام يحب أن يضيف.. يضيف الإمام أنه تعرض لإغراءات عديدة من كل أنظمة الحكم المتعاقبة لينضم إلى النخبة الحاكمة من العسكريين.. عبود ونميري والإنقاذ.. كلهم راودوه عن نفسه الأبيَّة فاستعصم.. وأنه كان يرفض ويرفس المشاركة باستمرار في تلك الأنظمة المتعاقبة لأن خلافه معهم ليس حول من يحكم السودان وإنما حول كيف يُحكم السودان! أي أن يتم الاتفاق على منهج الحكم أولاً ثم ليحكم السودان من يحكمه بعد إحكام منهج الحكم وإن كان راعي الضأن في بادية البطانة.. أو كما قال.. ولكن بعض ما نعرف من تاريخ الإمام أنه منذ الستينيات لم يتبوّأ منصبًا غير أن يكون رئيساً للوزراء! وبعض ما نعرف أن فترات حكمه رئيساً للوزراء لم تشهد أحد رعاة الضأن في بادية البطانة على كثرتهم يقترب من مجلس الوزراء! نعود لميكانزمات التولي.. الإمام وفي مهارات يُحسد عليها في تقديم مذكرات تفسيرية مبهرة قادرة على إلباس تصريحاته معاني ودلالات تقلب المعاني وتلبسها ثوباً جديدًا يلتبس على المتلقي. الإمام يقدِّم مذكرة تفسيرية للمقاربة بين إعلانه التنحي وإعلانه قبول المنصب بالانتخاب.. دع عنك الانتخاب هذه لأنها عبارة شائكة.. غامضة.. حمّالة أوجه.. الإمام يقول إن ما أشار إليه «سابقاً» عن نيته في التنحي إنما يعني أنه ينوي تدريب من يكون أهلاً للمسؤوليات من بعده! ربما يكون هذا فتحًا جديدًا في اللغة في باب المعاني.. التنحي يعني تدريب! تذكرنا هذه العبارات بتفسير لتصريحات أدلى بها «زميل» آخر للإمام داخل الملعب عندما وُوجه يوماً بتصريحات يقول فيها «البشير هو هبة السماء» فتبدلت في دواخله الرؤى والمواقف حتى أجاب عن تحوله عن هذا التصريح وتبرئة نفسه منه وردّ على السائل بما معناه: لا يمكن أن تحاسبني على رأي قديم قلته قبل سنوات.. لا يمكن أن أكون سجيناً لرأي قلته يوماً ما.. لابد أن أتجدَّد.. لا بد من التجديد! و«الزميل» يتجدَّد ويُحدث فتحاً جديداً في اللغة يُلبس العدول عن الرأي الموثَّق أثواباً من المعاني وأثواباً من التجديد.. و«زميل» آخر.. يحتفظ بالكرة.. ويلزم الصمت النبيل..