قبل السلم التعليمي الذي أدخل على نظام التعليم في السودان في عهد حكومة مايو كان التعليم في السودان معافى تماماً ويضارع أنظمة التعليم في أرقى دول العالم. وكانت مهارات خريج المدرسة الأولية «نظام أربع سنوات»، مهارات عالية في اللغة العربية والرياضيات وهما المادتان الرئيسيتان اللتان كانتا تؤهلان الخريج في ذلك الزمان لشق طريقه في وظائف السلك الكتابي والأعمال الحرة التجارية. أما خريج المدرسة الوسطى «أربع سنوات بعد التعليم الأولي»، فكان مؤهلاً للوظائف الحكومية ووظائف الترجمة والتدريس. ومنهج اللغة العربية شأنه شأن جميع المناهج كان حسن الإختيار وشاملاً وشائقاً وكان يحقق الهدف الأسمى من تدريس المادة وهو تحبيبها للدارسين. وبالرغم من مضي نيف وخمسين عاماً على دراستنا في المرحلة الوسطى إلا ان صورة معلم اللغة العربية في ذلك الزمان الأستاذ صالح آدم بيلو لا تكاد تبرح ذاكرتنا وأتخيله الآن بطلعته المهيبة البهية، وهو في شرخ شبابه يقف إلى جانب السبورة مواجهاً تلاميذه بعد ان كتب بخط أشبه بالسلاسل الذهبية تاريخ اليوم الهجري والأفرنجي وكتب في منتصف السبورة «تعبير حر» لقد كنا نتخيل ان ذلك الاستاذ الفذ وهو يقف أمامنا كانت له جذور ضاربة في أرض حجرة الدراسة من فرط تمكنه من مادته وإحاطته بها وحبه لها ولقد حقق شيخنا كل ما يبتغيه المعلمون وهو تحبيب المادة إلى تلاميذهم. ولا نتذكر الأستاذ صالح في مواقف بعينها بل في كل حصة وكل درس يلقيه على مسامعنا. وكان على سبيل المثال في حصة «التعبير الحر» الإسبوعية التي إبتدعها يطلب من كل تلميذ ان يختار موضوعا ما ويكتب رأس هذا الموضوع على السبورة وعندما يبلغ عدد الموضوعات المختارة قرابة العشرة موضوعات يبدأ التلاميذ الحديث المرتجل كل في الموضوع الذي إختاره. ولك ان تتصور ما تكسبه هذه الممارسة للتلاميذ من قدرة على الحديث بطلاقة باللغة الفصحى إلى جانب إكتساب الشجاعة الأدبية وأذكر الكثيرين من أبناء دفعتنا الذين واصلوا تعليمهم العالي وصاروا من بين نجوم المجتمع وأدلوا بدلوهم في رفعة شأن وطنهم. وكان أستاذنا صالح قدوة حسنة لتلاميذه وجسد قول الشاعر: شباب قنع لا خير فهم وبورك في الشباب الطامحينا فلم يكتف بنيله شهادة الليسانس بإمتياز في كلية الآداب - قسم اللغة العربية من جامعة عين شمس وبحصوله على دبلوم عال في التربية وعلم النفس إذ كانت الشهادة الجامعية حلم كل شاب بل مضى شيخنا ونال الماجستير ثم الدكتوراة واليوم يحتل البروفيسور صالح كرسي الإستاذية في جامعة ام درمان الإسلامية وإنيطت به مهمة الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراة وغدا من أعلام اللغة العربية الأفذاذ في بلادنا. أمد الله في عمره وجزاه كل خير عن الأجيال التي حبب إليها مادة اللغة العربية، وكما اسلفت فان النهج الفذ الذي كان يسير عليه شيخنا ومهارته الفائقة في فنون التدريس جعلنا نذكر المنهج الذي درسناه- ليس باباً باباً بل حصة حصة فلله دره. مرد ذلك الى قدراته الفائقة. يبدأ المنهج بتقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف، فالاسم ما دل على إنسان أو حيوان أو جماد أو غير ذلك والأفعال تنقسم إلى مضارع وماضٍ وأمر ويعرف المنهج كل قسم على حدة، أما الحرف فهو الذي لا يظهر معناه إلا مع غيره. وبدأ المنهج بمرفوعات الأسماء وهي المبتدأ والخبر والفاعل ونائب الفاعل واسم كان وخبر إن. وعلامات الرفع هي الضمة في حالة المفرد وجمع المؤنث السالم والواو في حالة جمع المذكر السالم والأسماء الخمسة والألف في المثنى بشقيه المذكر والمؤنث. ويعرف التلميذ من خلال دروسه الأسماء الخمسة ويحل الكثير من التطبيقات التحريرية والشفهية. ثم تأتي بعد ذلك منصوبات الأسماء وهي المفعول به والمفعول لأجله والمفعول معه والمفعول المطلق واسم إن وخبر كان.. وعلامات نصب المفرد هي الفتحة أما المثنى بشقيه وجمع المذكر السالم فعلامة نصبهما الياء. والأسماء الخمسة علامة نصبها الألف وعلامة نصب جمع المؤنث السالم هي الكسرة نيابة عن الفتحة. وتشمل الدروس اخوات كان وأخوات ان. ثم يتلقى التلميذ دروس الأفعال وأولها الفعل المضارع الذي ينصب إذا دخلت عليه إحدى نواصب الفعل المضارع وهي «ان، لن، كي ولام التعليل» وعلامة نصبه الفتحة، ثم جزم الفعل المضارع إذا دخلت عليه إحدى أدوات الجزم وهي «لم، ولا الناهية ولام الأمر». وإذا تجرد الفعل المضارع من الناصب والجازم فانه يكون مرفوعاً وعلامة رفعه الضمة. ثم يأتي الفعل الماضي وهو أصلاً يُبنى على الفتح وإذا إتصلت به تاء المتلكم وتاء التأنيث ونون النسوة والضمير «نا» فانه ينبى على السكون، اما حالة بناؤه على الضم فانها تكون عند إتصاله بواو الجماعة وفعل الأمر مبنى على السكون وإذا كان معتل الآخر يبنى على حذف حرف العلة. ثم تأتي الأفعال الخمسة وهي يفعلون وتفعلون ويفعلان وتفعلان وتفعلين. والأفعال الخمسة ترفع بثبوت النون وتنصب وتجزم بحذف النون ونواصبها وجوازمها هي ذات نواصب الفعل المضارع وجوازمه. من بين الدروس المهمة في قواعد اللغة العربية التي إنطبعت في مخيلة تلاميذ ذلك الزمان المستثنى بإلا وأنواعه والحال والنعت والتمييز الذي يشمل دروساً مهمة في تمييز العدد وظرف الزمان وظرف المكان وغير ذلك. حسب إعتقادنا ان ذلك المنهج القديم المتدرج كان يرسخ الدروس في أذهان التلاميذ وتظل في ذاكرتهم ما داموا على قيد الحياة، وفي عصرنا الحاضر إبتدع نهج تدريس قواعد اللغة في ظلال الأدب إلى جانب مناهج أخرى عديدة ولكن الشاهد ان مستوى تحصيل اللغة العربية قد تدنى لأبعد الحدود. ونرى ان لا ضير في الجمع بين الطريقة القديمة والطريقة الحديثة لان الطريقة القديمة أثبتت جدواها وهي التي جاءت لنا بكبار أدبائنا وشعرائنا الذين يباهي بهم بلدهم وشعبهم. وحال تلاميذ اليوم وهم بعيدون كل البعد عن اللغة العربية إستطاع ان يصوره أفضل تصوير الشاعر ابراهيم طوقان في قصيدته الرائعة التي جارى بها أمير الشعراء أحمد شوقي ونشرتها مجلة العربي الكويتية خلال مطلع الستينات: حسب المعلم غمة وكآبة مرأى الدفاتر بكرة وأصيلا مائة على مائة اذا هي أصلحت وجد العمي نحو العيون سبيلا لو ان في التصحيح نفع يرتجى وأبيك لم أك بالعيون بخيلا لكن أصلح غلطة نحوية مثلا وأتخذ الكتاب دليلا مستشهداً بالغر من آياته وبالحديث مفصلا تفصيلا وأغوص في الشعر القديم وانتقي ما ليس ملتبساً ولا مبذولا وأبعث سيبويه من البلى وذويه من أهل القرون الأولى وأرى حماراً بعد ذلك كله رفع المضاف اليه والمفعولا وانا أستعيد شريط دروس اللغة العربية خلال المرحلة الوسطى خطر ببالي قصيدة جميلة كانت مقررة على التلاميذ يومذاك وهي تنم عن حبهم لبنت عدنان لغة القرآن: لا تلمني في هواها/ ليس يرضيني سواها لست وحدي أفتديها/ كلنا اليوم فداها نزلت في ظل نفسي/ وتمشت في دماها فبها الأم تغنت/ وبها الوالد فاها لغة الأجداد هذي/ رفع الله لواها لم يمت شعب تبارى/ في هواها واصطفاها.