الغلاء ذلك الغول المفترس الذي يقضي على كل شيء يجب مواجهته رسمياً وشعبياً، المواجهة الشعبية محدودة الأثر إذا غابت المواجهة الرسمية.. يمكنني كمواطن أن أعلن مقاطعتي للحوم، ولكني بأية حال من الأحوال لا أستطيع مقاطعة الذرة والقمح والدخن والزيت والسكر، والأخير يمكن الترشيد في استهلاكه وهذا ما تقوم به الآن أي أسرة في ترشيد استهلاكها. أما الدور الرسمي وهو الدور الأساسي والذي يقنع الأسرة والمواطن بالمقاطعة هو دور الدولة، التي انجرت وراء اقتصاد السوق وسياسة التحرير المبهمة والتي أدت إلى ما نحن فيه الآن.. الدولار ارتفع ضعفي سعره قبل ستة أشهر فقط.. ماذا كان رد فعل الدولة تجاه هذا الارتفاع المريع لسعر الدولار الذي يعاني الضعف أمام جل عملات العالم إلا الجنيه السوداني الذي نزل عليه الدولار تقطيعاً وتمزيقاً. هل يا تُرى ستقاطع الدولة الدولار كما فعل المواطنون مع اللحوم؟ أم أن لها سياسة اقتصادية واضحة المعالم يمكنها أن تُخرج الجنيه السوداني من غرفة الإنعاش الاقتصادي التي يرقد فيها الآن تهدده الفيروسات القاتلة من كل حدب وصوب. والإنعاش الاقتصادي لأي بلد لا يتم إلا بالإنتاج، زراعي، حيواني، صناعي، أين نحن من الانتاج الزراعي، ماذا فعلت به النفرة الزراعية وكيف قضت على ما تبقى منه ما يسمى بالنهضة الزراعية؟.. وأي صناعة يمكن أن تقوم وتنمو دون انتاج زراعي وحيواني؟.. أين مشاريع حصاد المياه لتنمية الزراعة والمراعي، والسودان يضم مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة التي لا تحتاج إلا للماء؟ .. ونصيب السودان من مياه النيل معرض للتقلص في حين إن الحاجة للمياه الآن تعادل ضعف ذلك النصيب، أما بعد عشرة أعوام فستكون الحاجة تعادل ثلاثة أضعاف.. دور الدولة هو الأساس في محاربة الغلاء، والمنتج لأي سلعة يضع سعرها حسب تكلفة انتاجها ونقلها والجبايات التي دفعها للدولة عند كل منعطف.. تحضرني قصة أيام حكم المرحوم نميري وقد سعَّر محافظ الخرطوم سعر خراف الأضحية وقتها بمبلغ خمسة عشر جنيهاً وخمسة وعشرون جنيهاً.. وجاء المحافظ يزور إحدى الزرائب وتصدى له راعٍ أمي وقال له السيد المحافظ أنا أشتري رطل السكر في بلدي بمبلغ مية وخمسين قرشًا يعني أبيع خروفي دا واشتري بيه عشرة أرطال سكر إنت بتعقل الكلام ده؟.. وأسقط في يد المحافظ الذي لم يجد ما يرد به عليه، وخرج من الزريبة منهزماً أمام منطق مقنع لراعٍ أمي.. الفهم الخاطئ لسياسة التحرير هو الذي أوصلنا إلى مرحلة الفقر والعوز فأصبح الجميع حراً في وضع السعر الذي يريد وسياسة التحرير تقوم على المنافسة التي تقدم سلعاً في متناول قدرة المواطن المالية.. وسياسة التحرير عدو الاحتكار الأول، وهناك شركات تحتكر السلع وتتحكم في اسعارها ولا تجد من ينافسها في السوق، لذا فهي تضع الاسعار التي تروق لها.. وحتى ذات الدولة فهمت سياسة التحرير فهماً خاطئاً، حيث وجدت نفسها حرة في زيادة الضرائب والقيمة المضافة والجبايات في الشوارع، فكانت أحد الأسباب الرئيسية في الغلاء الذي نعاني منه وتطالبنا بمقاطعة السلع التي وجدت فيها الخيار الأفضل. أعتقد أن الدولة إن لم تتدخل فإن الخيار الأفضل لدى المواطن هو التخلي عنها كما تخلى عن اللحوم.. ماذا ستفعل الحكومة تجاه الارتفاع الجنوني للدولار؟ هل ستحذو حذو المواطن الذي اعتمدت مقاطعته خياراً وحيداً لمحاربة الغلاء هل ستأخذ بسياسة المواطن وتقاطع الدولار هي الأخرى؟ .. ما عهدنا الشعب يرسم سياسة اقتصادية لدولته، إنما العكس، فالدولة هي من يرسم السياسة الاقتصادية وليس المواطن المغلوب على أمره.. وإذا كان المواطن يستطيع ان يقاوم الغلاء بمفرده فسوف يذهب إلى أبعد من هذا حيث سينتقل إلى مقاطعة نظام حكمه.. أليس هذا الخيار واردًا؟!.