فإن عجبي لا يكاد يبطل عندما أسمع أن مسلماً أو مسلمة تنصرا زعماً بأن الله ثالث ثلاثة!! ولكني أعود فأقول: ألم يقل الله: «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور» «النور:40» ثم أعود بذاكرتي وأنا في الثامنة عشرة من عمري وما كنت يومها من «الملتزمين» بل وما كنت حتى من المصلين! وقد حط رحالي بلندن حاضرة الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس أخيراً، فما زلت أذكر بعض محاولات التنصير التي مارسها معي بعض الإنجليز رجالاً ونساءً، وكيف أنها كانت بالنسبة لي مهزلة المهازل التي مازلت أضحك منها حتى يومي هذا. كان أولها دعوة معلمتي للغة الإنجليزية لتناول الديك الرومي وبعض المشروبات «إياها» احتفالاً بالكريسماس في بيتها، فكان أن رفضتُ بشدة وتأبٍّ، ففُوجئَتْ وصُدمَتْ وبُهتتْ وقالت: لم؟ فقلت لها: أنا لا أحتفل بأعياد النصارى وأكرر أنني لم أكن حتى أصلي، وكنت أسكن على مرمى حجر من شاطئ العراة بمدينة برايتون فكان أن استعانت بأستاذ الرياضيات فقال لي: لماذا لا تستأذن من إمامك (your Imam) هكذا قالها، فقلت له: لن أفعل. وانتهت تلك المحاولة الأولى. وبالطبع كنت لا أؤمن برجال دين يبيحون ما حرم الله. وقد تسألني: كيف عرفت ذلك وأنت في تلك السن ولا تصلي؟ فأقول: «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيب»«الشورى:13»، ولكن قد تقول لي: ولكنك لست ممن أناب بل كنت فاسقاً وتاركاً للصلاة. أقول لك: ذلك أيضاً بقدر الله وحفظه وليس من شطارتي، ثم من أمر مهم يفتقده كل هؤلاء الذين تنصروا من المسلمين، ألا وهو الاستعلاء بالدين. ولكن ما هو الاستعلاء بالدين؟ إنه شعور بالاقتناع بالإسلام أولاً، ولو لم تكن من الملتزمين، ثم عدم الانبهار بالغرب وحضارته وبهرجه الزائف ولو كنت من أحقر الحواري والأزقة، وإني لأكاد أجزم أن عامة من تنصروا يعتقدون أن سر تقدم الغرب هو النصرانية، لكن الدارس للنصرانية يعرف أنها دين لا يدعو للعمل ولا للفكر الصائب الصحيح، وأن الغربيين ما تقدموا إلا عندما كفروا بها والتزموا منهج المسلمين «التجريبي» الذي استقوه من الأندلس والبندقية! هل يعلم شبابنا أن أهل البندقية قبل عصر النهضة كانوا يقلدون المسلمين في لباسهم وسمتهم لأنهم كانوا هم أهل الحضارة؟ والمحاولة الثانية كانت من شاب ألماني يعمل كناساً! بمدينة كمبردج، وكان يجلس إلينا بكافتيريا «جمعية الشباب النصراني» ولم يفتر يومًا من دعوتنا إلى الخلاص (Salvation) عن طريق الإيمان بصلب المسيح صلى الله عليه وسلم، وكنا دائمًا نضحك منه ونحاول إقناعه بسخف معتقده إلى أن فارقناه. والمحاولة الثالثة كانت أعمق، فقد كنا زبائن دائمين لكافتيريا الجمعية النصرانية السابقة، وكانت تعمل بها فتاة إنجليزية لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، وقد كانت مهذبة وعفيفة على غير عادة بنات جنسها، فسألتنا يومًا لماذا نتدافع ونتناقش عند دفع الحساب لها كل يوم، فأفهمناها أن من عادة السودانيين أن يدفع واحد فقط للمجموعة، وكل واحد يريد أن يدفع للباقين، فكان أن أُعجِبَت بذلك بل صارت من شلتنا وكنا ندفع لها عندما تدخل معنا السينما، ونقول لها: الرجال عندنا يدفعون عن النساء، فقررت أن تدعونا للنصرانية فأطلعتنا على صورة يتيم كينيّ تكفله هي بواسطة جمعية تنصيرية بريطانية، ثم دعتنا لحضور صلاة بكنيستها العريقة، فقمنا بتلبية تلك الدعوة فورًا، وقد كان ذلك بغرض التهريج، إذ ذهبنا أنا وصديق لي غاية في الظرف والطرافة، وكنا الأسودين الوحيدين بالكنيسة التي عَجّت بالإنجليز البيض، وكنا وقوفًا أثناء الصلاة في الصف الأخير، وما أن بدأ القسيس في تلاوة صلواته واستغاثاته بالمسيح حتى بدأ صاحبي بالرد عليها بصوت عالٍ وكأن القسيس يستغيث به مما جعل المصلين يلتفتون إلينا ولا يفهمون شيئًا في الصلاة، وكنت أضحك حتى ما أستطيع القيام معتدلاً، وكانت صاحبتنا قد صار وجهها مثل «الفشفاش» وجاءتنا معاتبة بعد انقضاء الصلاة، واصطفوا جميعًا للخروج من الكنيسة، وكانوا يمسحون وجوههم أثناء ذلك من حوض به ماء مقدس «زعموا»، وبما أنها لم تيأس فقد طلبت منا أن نمسح وجوهنا بذلك الماء فقال لها صاحبي: كيف وقد صار الماء ملوثًا بعد أن أدخل هؤلاء جميعًا أيديهم فيه؟ فمازلت أضحك حتى خرجنا من الكنيسة وهي تقول لنا: فضحتموني في كنيستي، وكان أن أثارت دعوة تلك النصرانية لنا إلى دينها حفيظتي الدينية خاصة أن علاقتها بنا تواصلت وتوطدت، فجلبتُ لها بعض الكتب الإسلامية من المركز الإسلامي بلندن، وبدأَتْ تقرأ فيها حتى هداها الله إلى الإسلام على يد صاحبنا الذي «جاط الكنيسة قلبة وعدلة» والذي تزوجها فيما بعد ومازالت زوجته إلى يومنا هذا والحمد لله أولاً وآخرًا. جالت كل هذه الذكريات بنفسي لما قرأت ب «الإنتباهة» قصة الفتاة التي نُصِّرتْ فاتصلت بذلك الداعية الذي صرع ذلك المنصر الإنجليزي في عقر داره، فأطلعني على أمثلة أخرى ينفطر لها القلب فهلا التفت إعلامنا الراقص والمُغَنِّي إلى هذه المؤامرات التي يعمل رجالٌ أوفياء نحسبهم والله حسيبهم على التصدي لها ومحاربة دهاقنتها بجهودهم الشخصية الشحيحة، أم أن البحث عن «نجوم الغد» ألهانا عنها.. اللهم بلغنا فاشهد.