لا أدري هل البريء سياسياً هو السيد الصادق المهدي أم أنه يستثمر في براءة بعض الناس سياسياً؟! بطريقته المعهودة في إطلاق الأرقام للحالات المختلفة، فقد قال في خطبة الجمعة الماضية إن النظام الحاكم قد بدأ في التساقط لسبع دلالات. وجاء منها في الأخبار تدهور عملة الجنيه واتساع دائرة هجرة السودانيين للخارج والمشكلات القبلية. وإذا افترضنا أن هذه المشكلات قد أطاحت هذه الحكومة، فهذا يعني أن يكون هنا مسلسل إطاحة مستمر، فبنفس الأسباب تسقط الحكومة التي ستخلفها، وستسقط التي ستخلف تلك، وهكذا. وذلك لأن وجود هذه الحكومة يمكن أن يكون مانعاً لبعض الأمور، لكن ليس من بينها الحفاظ على قيمة العملة وتضييق دائرة هجرة السودانيين للخارج وحل المشكلات القبلية. ويمكن أن يكون مانعاً لإلغاء الشريعة الإسلامية مثلاً، وهي قضية مسلمين حساسّة جداً، ومن يسبحون عكس تيارها في بعض الصحف و«الفيسبوك» مجموعة قليلة فيها من هو مُغتر ومن هو مُغرر به ومن يريد محاكمة الدين من خلال رجال الدولة. ويمكن أن يذهب هذا النظام بأمر الله، لكن هذا لن يكون سبباً لتوفير حلول المشكلات التي عددها الصادق المهدي، وقال إنها ستقف وراء إسقاط النظام. وهنا لم يفرِّق السيد الصادق بين المشكلات الحتمية التي لا تتأثر بتغيير النظام أو بقائه والمشكلات التي تذهب معه إذا ذهب وتبقى إذا بقي. وحتى التحوُّل الديمقراطي في وجهة نظر السيد الصادق وهو لا يعترف بوجوده حالياً إذا جاء نتاجاً لسقوط هذه الحكومة كما حدث من قبل، فإن القوى السياسية لا تملك الضمان لاستدامة أي وضع سياسي بعد التغيير إذا حدث الآن. وفي السابق كره أحفاد أنصار المهدي وأنصار الزعيم الأزهري والإسلاميون والسلفيون كرهوا انقلاب جعفر نميري ولم يطيقوه حينما وقع عام 1969م، لكنهم كرهوا أكثر وأكثر انقلاب الشيوعيين الذي قاده هاشم العطا بمعاونة قائد الحرس الجمهوري المقدم عثمان حاج حسين أبو شيبة في 19 يوليو 1971م، وكانت عودة نميري وعودة حكمه العسكري الشمولي. ويقول المثل العربي القديم «في الشرّ خيار». والآن نفس هذه القوى التي يقودها الآن الصادق والميرغني والزبير محمد الحسن والشيخ أبو زيد محمد حمزة ستطبق نظرية «أفضلية نميري على الشيوعيين»، أي أن هذه المرة ستكون النظرية هي أن «البشير أفضل من قادة الجبهة الثورية مثل ياسر عرمان ومالك عقار والحلو وبعض قادة التمرد في إقليم دارفور. والصادق المهدي نفسه كأنما كان يلمح وهو يتحدّث في منبر الجمعة الفائتة بمنطقة المرابيع بالنيل الأبيض، إلى أن بديل هذه الحكومة سيكون أسوأ منها إذا لم يكن هو بديل حكومة نميري، فهو يقول إن حزبه حزب الأمة ضد سياسات المؤتمر الوطني لكن ليس ضد السودان، وقد قال هذا في سياق حديثه عن أخطاء أساسية في وثيقة الفجر الجديد التي صدرت عن الجبهة الثورية أخيراً وأثارت ردود فعل واسعة على مختلف الأصعدة في الداخل والخارج. ورأي الصادق أن هذه الأخطاء الأساسية هي أجندة الاجتماع وزمانه ومكانه، وحل أجهزة الدولة المقصود به إعادة هيكلتها. ويبدو أن السيّد الصادق المهدي يفطن للهدف الرئيس لعمل الجبهة الثورية، ويرى أنه ليس هو إسقاط الحكومة فحسب، بل حتى المعارضة الداخلية وإلغاء حريتها السياسية، باعتبار أن الحكومة والمعارضة في الخرطوم وجهان لعملة واحدة في نظر قادة الجبهة الثورية. وهذا الأمر يدركه السيد الصادق جيداً.. ولن تشفع له عند الجبهة الثورية أفكاره حول المرأة في النظام الشرعي أو حول الدولة المدنية التي لا تستوعب الشريعة الإسلامية. والمهم في الأمر هو أن سقوط النظام لن يوفر حلولاً للمشكلات التي عددها السيد الصادق، لكنه فقط يُلغي تطبيق الشريعة الإسلامية.