لا تمنع زخّات المطر، والبرد الذي يتسلَّل للعظام في العاصمة الألمانية برلين، من تلمُّس حرارة الاهتمام السياسي في الفضاء الأوربي بما يدور في السودان وجنوب السودان، والمفاوضات الشاقّة التي لم تُفضِ لحل واستقرار دائم بين بلدَين كانا في الأصل دولة واحدة، قبل أن يختار الجنوبيون طوعاً انفصالهم عن بقية السودان.. نقاشات متنوعة تدور وخبراء في الشأن السوداني كانوا ضيوفاً على سفارتنا في برلين خلال اليومين الماضيين وبعضهم دبلوماسيون وأكاديميون أوربيون وألمان، جميعهم ينظر بجدية في مستقبل العلاقات بين مكوِّنات منطقتنا وهي القلب الإفريقي وسبل تحقيق الاستقرار والأمن والسلام بينها وانعكاس ذلك على التنمية والنهوض من قعر التخلف الاقتصادي والاجتماعي، ومن ثم يُصوَّب النظر إلى العلاقة التي بدأت تنفرج في التعاملات مع الدول الغربيَّة على الأقل الأوربيَّة.. فمن المهم للغاية أن نستثمر نحن في السودان اللحظة التاريخيَّة الحاسمة والمناسبة، لفعل شيء ما لاستعادة ما فقدناه خلال السنوات الماضية وفتح الباب أمام السياسات والطرق التي تقود لتعامل فيه من الاحترام والنديَّة والتعاون مع دول العالم المختلفة بما يحقِّق مصالحنا ويدرأ عنا الشرور ويحفظ بلادنا.. المبادرة الألمانية بعقد مؤتمر اقتصادي سوداني ألماني تشارك فيه دولة جنوب السودان، لم يكن عملاً سهلاً ولا منزوع القيمة، فأولى دلالاته أن دولة مثل ألمانيا وافقت على عقده وتبنَّته، وأعطت رسالة قويَّة بعقده في مقر وزارة الخارجيَّة الألمانيَّة وخاطبه وزير الخارجية الألماني الذي لا يمكن الادِّعاء بأنه من تيار مساند للسودان، وحضرت فعاليات رسميَّة وسياسيَّة واقتصادية ألمانية ما كانت لتحضر لولا أن السياسة الرسميَّة للحكومة الاتحاديَّة في برلين تحسَّست دورًا لها في هذه المنطقة من إفريقيا وأهميَّة أن تقدِّم مبادراتها لأهميَّة السودان وموقفه وموقعه في القارة الإفريقيَّة وقدرته على التأثير في جواره الإفريقي، ثم إن دولة جنوب السودان كما قال أكثر من مسؤول في الخارجية الألمانية لا سبيل لها لتعيش وتستقر وتخرج من عنق الزجاجة إذا لم تصل لتسوية سياسيَّة لكل الخلافات بينها وبين الخرطوم، وتلك نصيحة قالها العديد من السياسيين والمسؤولين في دول الاتحاد الأوربي، وصارحوا بها سلفا كير ميارديت رئيس دولة الجنوب في زيارته الأخيرة لبروكسل عندما جاء يطلب دعماً مالياً لبلده بعد إيقاف ضخ النفط وعبوره عبر الأراضي السودانيَّة، ونُصح يومها بأنه: «لا دعم لك.. ولا مساعدات وثروتك تحت قدميك، أنت من أغلقت صنبورها، حسِّن علاقتك مع جيرانك في الشمال، وحل قضيتك..» فأهميَّة الملتقى الذي عُقد في برلين تكمُن في رسالته السياسيَّة الواضحة التي لا تخطئها عين، والتحدي الذي واجهته حتى الحكومة الألمانيَّة عندما سعت جهات غربيَّة عديدة ومنظَّمات ناشطة في الولاياتالمتحدة الأمريكيَّة وأوربا على تعويقه ومنع انعقاده.. مورست ضغوط كثيفة لمنعه من الانعقاد لأنه يفتح الطريق أمام الخرطوم ويمهِّد خطواتها نحو ترميم علاقاتها الغربيَّة والاندماج بالكامل في المجتمع الدولي.. ولما أخفقت كل محاولات تعويق هذا الملتقى ولجم الحماس الألماني له، أعلنت حكومة جنوب السودان في اللحظة الأخيرة قُبيل ساعات فقط ودون مبرِّرات مقنعة عن عدم حضور وزير خارجيتها نيال دينق نيال ورأست سفيرتُها «ستونا عبد الله عثمان » وهي من بنات بحري حي الدناقلة رئاسة الوفد رغم حضور وفد يمثل الوزارات الجنوبيَّة ووجود وزير أو وزيرة في برلين، وتمَّت مشاركة دولة الجنوب بهذا المستوى الذي يُعتقد أنه لم يكن مُرضيًا للطرف الثالث وهو ألمانيا مضيفة الملتقى ومنظِّمتُه.. المهم كسب السودان الكثير من الملتقى لأهميَّة ما تم فيه من حوارات ونقاشات وتفاهمات ولقاءات لرجال الأعمال والمستثمرين الألمان والسودانيين والفرص التي أُتيحت للتعرف على مناخ الاستثمار في السودان... ربحنا جولة مُهمَّة قد تشقِّق جدر التحالف الغربي ضدّنا، فكيف نستطيع التقاط القفاز والتقدُّم أكثر نحو الأمام..