كتب الاقتصادي والخبير المالي الكبير، إبراهيم منعم منصور وزير المالية الأسبق في عهد جعفر نميري لصحيفة الصحافة قبل سنوات، مقالات طويلة وقيِّمة ومفيدة، عن الفرص الضائعة للسودان، وكشف فيها الكثير من المنح والقروض وأنواع الدعم المختلفة التي كانت قاب قوسين أو أدنى في فترة السنوات السبعين، فقدتها البلاد جراء عدم الفهم أو التآمر أو سوء التقدير.. وكان يمكن للبلاد أن تحقق في ذلك الأوان الكثير من مشروعات التنمية والنهوض من قاع التخلُّف لفياح التقدُّم والازدهار مثل كثير من الدول التي كنا نسبقها فتجاوزتنا اليوم بسنوات ضوئية في الفضاء الآسيوي البعيد في الجوار الإفريقي. تذكرت ذلك ونحن في نقاشات مع بعض سفراء السودان لدول الاتحاد الأوروبي وقد تجمعوا من مناطق عملهم لحضور الملتقى الألماني السوداني والجنوب سوداني، في برلين المثقلة بالثلج الأبيض وجليدها وصقيعها وبردها الذي تموت منه الحيتان، كما قال الراحل الطيب صالح.. يستطيع السودان حسب إفادات هؤلاء السفراء من أصحاب التجربة والخبرة، تلمُّس الكثير من الإشارات حول الفرص الضائعة وعجزنا في اختراق الكثير من البلدان الأوروبية، لو أحسنّا إدارة أزماتنا وعلاقتنا معهم، وسعينا نحو تحسين صورتنا أمام العالم، وهي صورة تتشوه في كثير من الأحيان بفعل أشخاص بعضهم مغمور وخامل الذكر والصِّيت، وبعضهم في مواقع السلطة والقرار ... تبدو السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي وبلدان الاتحاد الأوروبي في حالة تغيُّر مستمر حسب المصالح والظروف والأوضاع، ولا شيء يعدل الحقيقة والمصارحة والمبادرات التي يمكن أن تطوي ملفات كثيرة وتعيد علاقات السودان لسابق عهدها، فالعالم تجاوز مراحل الضغوط والتصلب، فهناك مساحة يمكن ملء فراغاتها بالمبادأة وحسن التدبير والقدرة على الحضور والمبادرة وتقديم ما تستطيع فعله وانتهاج منهج لا يتعارض مع مواقف ومبادئ معلنة.. فليس هناك مستحيل في دنيا السياسة، لكن هناك عقبات يمكن بالدأب والصبر والوضوح والحديث البناء والحوار العميق الجاد والنقاشات الواضحة تبديد ضباب الشكوك والظنون وإعادة رسم صورة أقرب للحقيقة والتصديق.. إذا كان العالم تقوده اليوم، المصالح لا الأيدولوجيات والدوغمائية السياسية، فمن السهل جداً في وضع مثل وضعنا، البحث عن كل الطرق التي تجعلنا نخرج من الزاوية الضيِّقة التي حُشرنا فيها وكسبنا عداوات كان يمكن التعامل معها بكيفيات مختلفة وبسبب سوء التقدير وتضارب القرارات والسياسات وعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. لدينا ملفات يجب التفكير بجدية ومسؤولية وطنية وعمق، في إغلاقها وطيِّها للأبد، وهي التي تتسبب في تعقيد تطبيع علاقاتنا الخارجية، يمكننا اختراق الجدار الصلد للتحالف الغربي وتفتيت الموقف المتحد الأمريكي الأوروبي، فهناك فرص متاحة للتعاون المشترك في المجال الاقتصادي وتجاوز عقبات العقوبات الغربية، سواء كان ذلك بالتعامل الثنائي المباشر، كما هو الحال مع ألمانيا التي لا تجد حرجاً في تشجيع وحثِّ شركاتها ورجال أعمالها والقطاع الخاص فيها من التوجه للسودان، وهي أكبر اقتصاد أوروبي ومن الدول المؤثرة في المجتمع الدولي، فإن بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا والنمسا ورومانيا والسويد والنرويج وغيرها من الدول الأوروبية تستطيع كما يقول المثل الغربي ابتلاع الضفدع الكبير، وتجاوز مواقف الماضي والعقوبات والتشدد السابق والتعامل معنا باحترام وفتح صفحة للتعاون.. فليست الأمور كلها مؤامرات وعدائيات، هناك عدم تقدير دقيق لما يجري، وتداخل ما بين السياسي والمهني المحض كما تفعل الدبلوماسية الاحترافية التي تقدِّم النصح وترشد للطريق الصحيح، فتأتي أرجل السياسة الداهمة فتفوت على البلاد السانحة وتطبع على قفا البلاد ما قاله إبراهيم منعم منصور.. الفرص الضائعة .!!