قلت في مقالي السابق وهذا في تقديري الخنساء وليلى لم يعرف تاريخ الأدب العربي الماجد أرقّ شعراً، وأعذب عاطفة وتحناناً، وأبلغ أثراً على الوجدان في الرثا والبكاء من شعرهما، وكل راثٍ وباكٍ بعدهما هو تابعٌ لتلك المجرة المضيئة النفيسة.. ربما يعتقد قائل فيقول العاطفة الجياشة، والرقة المتناهية والوجدان الباكي، والشعور الشفّاف الانفعالي أصل في طباع المرأة السويَّة، ولذا طبيعي أن يكون شعرهما رقيقاًَ مبكيًا.. أقول عرف تاريخ الأدب العربي، وتاريخ الأدب الإنساني بصورة عامة، كثيرًا من الشاعرات الشواعر يشتركن مع الخنساء وليلى في طبيعة الفطرة والطباع «السيكولجي» «أو من ينشئ في الحليةِ وهو في الخصام غير مبين».. الآية.. ولكن لم تجُد قرائحهنَّ بما جادت به قريحتا خُناس وليلى.. إذن هناك مهارة وعقل وتفرد ودربة سمت بخناس وليلى عن بيئة الأنوثة العامة.. ولعل في قول النابغة الذبياني للخنساء حين أنشدته والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفاً لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، فالنابغة لم ير أنها متفوقة في نظم الشعر في عالم الإنس فحسب، بل في عالم الجن أيضاً رغم أن العرب كانت تعتقد في الجاهلية أن أي شاعرة أو شاعر نبغ في الشعر وذاع صيته لا شك أنه غشي وادي عبقر حيث الجن تعلم الإنس قرض الشعر وأفق الخيال والإيحاء والتنبؤ، ولهذا قال قائلهم: وإني وإن كنتُ صغيرالسن.. وكان في العين نبوٌّ عني فإن شيطاني أمير الجن.. يذهب بي في الشعر كل فنِّ ولذا يُروى أيضاً أن النابغة قال للخنساء: أنت أشعر امرأة!! قالت له ورجل.. يعني أنا أشعر أمرأة ورجل. إذا كان الناس يبكون الفتيان الموتى ألا فليعلموا أي فتىً من الفتيان يستحق البكاء.. تقول الخنساء: يا لهف نفسي على صخر إذا ركبتْ.. خيلٌ لخيل تنادي ثَّم تضطربُ قد كان حصناً شديد الرُّكن ممتنعاً.. لَيثاً إذا نزلَ الفتيانُ أوْ ركبُوا أغرُّ، أزْهرُ، مِثلُ البدر صُورتُهُ.. صافٍ، عَتيقٌ فما في وجههِ نَدَبُ يا فارس الخيلِ إذْ شُدَّتْ رحائِلُها.. ومُطعِمَ الجُوّع الهَلْكى إذا سغبوا كم من ضرائك هلاك وأرملةٍ.. حلُّوا لديك فزالتْ عنهُم الكربُ شديدُ الركنِ يعني القوي، الليث هو الأسد، الأغرُّ هو الشريف، سيد قومه، وغرّة كل شيء أوله، والأزهر هو النيّر الأبيض مشرق الوجه، ولذا يقال للشمس والقمر الأزهران، والعتيق هو الكريم من كل شيء، والخيار من كل شيء، ولذا سميت الكعبة بالبيت العتيق، أي الكريم الخيار القديم، ويقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه عتيق لجماله، ويقال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «أنت عتيق من النار». وقولها فما في وجهه نَدَبُ، أي ما في وجه أسى أو هم.. وأصل النادب هو الحزين الباكي على الميت.. عليه أسى وشجن. وتقول عنه: نعم الفتى كان للأضياف إذا نزلوا.. وسائلٍ حلّ بعد النّومِ محروبُ فتي السّنِّ كهلُ الحِلمِ لا مُتسرّعٌ.. ولا جامدٌ جعدُ اليدين خريبُ وما كرَّ إلاّ كان أوّل طاعنٍ.. ولا أبصرتْهُ الخيل إلاّ أقشعرّتِ فيدرك ثأراً ثم لم يُخطِهِ الغنى.. فمثلُ أخي يوماً به العينُ قرّت فلستُ أزّرا بعدهُ برزّيةٍ.. فاذكره إلاّ سلّت وتجلّتِ ترى خناس أن أخاها صخراً جمع المحاميد والمروءات وكريمات النبل، ولذا هي تبكيه طول الدّهر، فهو كريم مع الأضياف والسائلين الطارقين بابه ليلاً بعد النوم، وهو صغيرٌ في سنه كبير في عقله، له حكمة الرجل الكهل، ذو أناة وتؤدة غير مُتسرع، ولا جامدٌ جعدُ اليدين، أي ليس بالبخيل، وتلك من أعظم صفات الرجال الكرماء الذين قادوا حركة التاريخ النضير، ثم إنه ما دخل الحرب الاّ كان أول من برز للعدو يقاتله ولا أبصرته الخيل إلا خافت، وهنا مجاز فهي تريد الذين على ظهور الخيل من الأعداء، ولذا صخر فتى تقر به العين وتفرح به النفس، وترى خناس أنها ما أُصيبت بعده بمصيبة فتذكرته إلاّ صغرت مصيبتها وتونسيت فمصابها بفقده هو الأعظم. لأسفي سكتت خناس عن نظم الشعر بعد مقتل صخر وإسلامها واستشهاد أبنائها الأربعة في موقعة القادسية كما ذكرت في مقالي السابق، ثم صمت هذا الصوت العربي الندي الشجي الباكي إلى الأبد. وإن كانت الخنساء بنت عمرو بكت صخراً أخاها غير الشقيق، فإن ليلى الأخيلية قد بكت ابن عمها الحبيب، الذي هواها وهوته. ليلى هي ليلى بنت الأخيل من عقيل بن كعب.. هي أشعر النساء لا يقدم عليها إلاّ الخنساء، وليلى هي التي هاجت النابغة الجعدي رضي الله عنه أيام الجاهلية وهو الشاعر الذي صار بفضل إسلامه صحابي جليل من أعظم شعراء الدعوة الإسلامية، فهو الذي قال: أتيتُ رسول اللهِ إذ جاء بالهدى.. ويتلو كتاباً كالمجرة نيرا بلغنا السماءَ مجدنا وجدودنا.. و إنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إلى أين يا أبا ليلى وهي كنيته يعني بهذا القول فقال إلى الجنّة يا رسول، فقال عليه الصلاة والسلام إلي الجنة إن شاء الله، ثم دعا له دعوة قال فيها «لا فضّ الله فاك» فعاش النابغة الجعدي الصحابي رضي الله عنه مائة عامٍ ولم تسقط له سنٌ أصابته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المباركة وليلى الأخيلية الشاعرة الرقيقة رثت عثمان بن عفان الخليفة الراشد صهر رسول الله وصاحبه، الشهيد جامع القرآن صاحب أعظم منظمة وقفية خيرية في تاريخ الإسلام، الذي قتلته الخوارج لعنهم الله ظلماً.. رثته ليلى تقول: أبعدَ عثمانَ ترجو الخيرَ أمتُهُ.. وكان آمَنَ من يمشي على ساقِ خليفة الله أعطاهم وخوّلهُم.. ما كان من ذهبٍ جُومٍ وأوراقِ بكت ليلى الفتى الذي ملك عليها قلبها وعقلها بكريم صفاته.. الكرم والمروءة والشجاعة، يمشي على الأرض كأنه الليث يقطر سيفه دماً من دماء الأعداء، كأنه سنا البرق حين يبدو للعيون النواظر.. قالت: أقسمتُ أرثي بعد «توبةَ» هالكاً.. وأحفلُ من دارت عليه الدوائر هيجها وأرّقها وملأ قلبها أسيء موت الفتى توبة «الحبيب» مقتولاً بغدر.. قالت: لعُمرك ما بالموتِ عارٌ على الفتى.. إذا لم تصبه في الحياة المعاير أي والله قد أصابت وأحسنت.. وقالت: وما أحدٌ حيٌّ وإن عاش سالماً.. بأخلدَ ممن غيَّبته المقابرُ ومن كان مّما يحدث الدهرُ جازعاً.. فلا بُدّ يوماً أن يُرى وهو صابرُ وكل شبابٍ أو جديدٍ إلى بلى. وكل أمرئ يوماً إلى الله صائرُ وهذا البيت يذكرني بقول الضابط المصري الشاعر المعاصر محمود سامي البارودي الذي نُفي إلى جزيرة سرنديب وترك في مصر بناته النجوم الخمس، وكانت أصغرهن «سميرة» التي كان يحبها حباً جمّاً، فأنشد وقد جاءه طيفها ليلاً يقول: إن تكن الأيامُ فرقتْ بيننا.. فكل أمرئ إلى الله صائر لعله من فكرة ليلى الأخيلية أخذ هذا المعنى الذي في عَجُز بيته. تقول ليلى تصف توبةَ الفتي الذي يستحق أن يُبكى.. لزاز حروبٍ يكره القومُ درأه.. ويمشي على الأقران بالسيف يخطرُ مطلٌ على أعدائه يحذرونه.. كما يحذرُ الليثَ الهزيل الغضنفرُ وترى ليلى وما أجمل ما رأت أن الهجران القاسي ليس هجران النوى والبعد، ولكن هجران الموت حين يغيب الحبيب.. لعُمرك ما الهجرانُ أن تشحط النَوَى.. ولكنّما الهجرانُ ما غيّب القبرُ ثم دعت بنات حيها وفريقها أن يشاركنها النُّدبة على توبةَ لتبكِ العذارى من خفاجة كلها.. شتاءً وصيفاً دائبات ومربعا والبكاء هنا على فتى واي فتى!! هو الحبيب، ولذا لا بد أن يكون بكاءً مستمراً شتاءً وصيفاً وربيعاً وخريفاً. وبلغت ذؤابة الفخر بقومها أهل الفتى «توبة» الحبيب تقول: نحن الأخايل ما يزال غلامنا.. حتى يدبَّ على العصا مذكورا شمُّ العرانين أسماطٌ نِعالِهمُ.. بيض السراويل لم يَعْلق بها الغمرُ تقول أن بني قومها ينشأ الفتى منهم حتى يصير كهلاً وشيخاً لا تذكر له رذيلة وسوء خلق، شمُّ العرانين عزيرة نفوسهم، نعالهم عليها خرزٌ حبال من خيط متين، وسراويلهم بيض كناية عن العفة والطهر والبعد عن الفواحش، والغمرُ بالغين هو الدنس أو كل شيء يخالط سواه فيغطيه، فهم لا تغطي الرذائل طهرهم. قولها بيض السراويل يشبه قول الإمام أحمد بن إدريس الشافعي صاحب المذهب الشهير..«ما حللتُ إزاري قط» كناية عن العفة.. تبكي ليلى توبة تقول: فتى كان للمولى سناءً ورفعةً.. وللطارقِ السارِي قرى غير باسر ولم يدع يوماً للحفاظ وللندا.. وللحرب يرمي نارهاً بالشرائر فتى لم يزل يزداد خيراً لدن نشا..إلى أن علاه الشيبُ فوق المسايح تراه إذا ما الموت حل بورده.. ضروباً على أقرانهِ بالصفائح شجاعٌ لدى الهيجا ثبْتٌ مشايخٌ.. إذا إنحاز عن أقرانه كلُّ سايح فعاشً حميداً لا ذميماً فِعالهُ.. وصولاً لقرباه يُرى غير كالحِ فأقسمت أبكي بعد توبةَ هالكاً.. وأحفلُ من نالتْ صروف المقادرُ قال الأصمعي: أشعرتُ أن ليلى أشعر من الخنساء.. ويحكى أن ليلى دخلت يوماً على عبدالملك بن مروان، وقد أسنّت أي صارت كبيرة السن فقال لها ما رأى فيك توبةُ حين هويك؟ قالت: ما رآه الناس فيك حين ولوك! فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها.. عاشت ليلى إلى أيام الحجاج بن يوسف الثقفيّ، فسألته يوماً أن يحملها إلى قتيبة بن مسلم بخراسان وهو من أبناء عمومتها فحملها على البريد، فلما انصرفت من عند قتيبة ماتت بمنطقة يقال لها ساوة، فدُفنت هناك، وتركت لنا رثاءها.. توبة فمن يرثي لنا اليوم خناس وليلى.. إني عند ذكرهما لطروبٌ.. فهما نسمتان من نسمات الشعر العربي في عهده الماضي الجميل.. رحمهما الله رحمة واسعة.