في العاصمة السياسية لهولندا لاهاي، كل شيء خافت وبارد كما الشتاء وزمهريره ورياح الصقيع وتكسر الأمواج في بحر الشمال والشوارع الخالية، لكن السودان حاضر بقوة هنا في الأجندة السياسية والاقتصادية كما يقول السفير سراج الدين حامد رئيس بعثتنا الدبلوماسية إلى هولندا. وهذه الدولة الأوربية الغنية، تتأهب لانتقال كبير في القصر الملكي، بتنازل الملكة بياتريكس ويلهيلمينا آرمجارد، التي تولت العرش منذ 1980م، لابنها وولي عهدها وليام الكسندر «46 عاماً» في 30 أبريل القادم، وقد تخلت لها هي نفسها والدتها الملكة السابقة جوليانا عن عرشها.. وبقيت في القصر الملكي «33» سنة، وتبلغ الآن السادسة والسبعين من العمر.. وتصر على التنازل كما قالت في خطاب مرئي على شاشات التلفزة: «أنا لا أنسحب لأن مهمتي أصبحت ثقيلة علي، ولكن لاقتناعي بأن مسؤولية بلدنا يجب أن تكون في أيدي جيل جديد....». وفي هذه الأجواء تطل صورة السودان عبر المؤسسات السياسية ومراكز الدراسات الإستراتيجية الأوربية خاصة في هولندا، مع تكاثف الاهتمامات بما يجري في القارة الإفريقية وفي السودان وفي دولة جنوب السودان التي ولدت من ضلعه. وتوجد ملفات مفتوحة تكاد تغلق، ولربما توجد رغبة في طيها إن توفرت مقومات ومؤشرات إيجابية في علاقاتنا الأوربية، بالرغم من أن هولندا تتقدم أخواتها الأوربيات في مواقفها المتشددة ضد السودان، خاصة ما يتعلق بالعقوبات الأمريكية الاقتصادية المفروضة علينا، واحتضانها محكمة الجنايات الدولية التي توجد في لاهاي. وتستثمر هولندا ما يزيد عن ستمائة مليار دولار في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وحجم التبادلات التجارية بينها وواشنطون تبلغ حوالى «263» مليار دولار سنوياً، ويتحكم رأس المال اليهودي في مسار السياسة نوعاً ما، لكن يتبدى في الأفق والفضاء الأوربي نوع من الواقعية السياسية الجديدة عند النظر لقضايا الأمن والاستقرار في بعض المناطق في العالم، ومنه منطقتنا الإفريقية وأثر السودان في هذه المنطقة. وكثير من الدول الأوربية اليوم تقف عند مفترق حيرة لا علاقة له بمبدئيات السياسة، فالمصالح الاقتصادية وتبادل المنافع هو المدخل لفعل أي شيء وكل شيء، في هذه العواصم المتخمة بالحساسيات من قوة الرأي العام وطغيان المنظمات غير الحكومية المسيسة وجماعات الضغط خاصة اليهودية منها. وبدأت كثير من البلدان الأوربية على شكل خجول للغاية، تتلمس دروبها ومصالحها الخاصة، حتى وهي مقيدة بحبل السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي الذي تقف دوله هذه الأيام على حافة الخلافات العميقة والانسحابات المتوقعة والتلويح بها بعد صدور تصريحات بريطانية في هذا الصدد تتردد صداها في كل منطقة اليورو ومع دخول فرنسا في عمق الوحل والمستنقع المالي والحرب المفتوحة هناك وأثرها على الاقتصاد الفرنسي المترنح هو أيضاً بعد انهيار الاقتصاد اليوناني وأزمة الاقتصادين الأسباني والإيطالي. وما يجب علينا أن نفهمه نحن في الخرطوم، أن العالم اليوم ليس هو ما نعرفه قبل سنوات، فقد حدثت متغيرات كثيرة وبدأت مفاهيم عديدة تتغير، وتراجعت الحملات الشعواء التي كانت تشنها ضدنا المنظمات اليهودية وغيرها، وتستخدم قضية دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وحقوق الإنسان، فإذا تمكنا من ضبط ممارساتنا في الداخل وتعاملنا بوضوح مع الخارج فليس هناك عقبة ولا مسير عسير.. ويمكن أن نصل إلى مرفأ آمن، وتستوي علاقاتنا الخارجية مع دول كثيرة في العالم على جودي التفاهم والتعاون والاحترام. وهنا في لاهاي وأمستردام تغير طقس الرأي العام نوعاً ما، وبدأت بعض وسائل الإعلام تنظر بموضوعية لعلاقتنا مع دولة الجنوب، وظهرت كتابات ناقدة لحكومة دولة جنوب السودان، وتنشر صحف (مترو Metro وسبتش Sptich) اللتان توزعان بشكل كثيف مجاناً في كل مكان خاصة في محطات القطارات والمترو والمتاجر والأسواق ولها تأثير هائل، تنشر تقارير شبه محايدة لا تحمِّل فيها السودان أية مسؤولية لما يجري في دولة الجنوب ومشكلاتها الأمنية والاقتصادية والسياسية، بل يعتبر بعضها حكومة جنوب السودان حكومة طائشة لا تعرف أين تكمن مصالحها ومثيرة للمتاعب، بالرغم من أن درجة التعاطف معها إلى وقت قريب كانت عالية نسبياً، لكنها اليوم، غير ما كانت عليه، على مقربة من الحضيض. وإذا كان السودان قد أبرم اتفاقيات تعاون مع الاتحاد الأوربي ودوله وأصبح شريكاً أصيلاً في بعض برامجه، فإننا ندعو إلى تفكير جديد وعصف ذهني حقيقي عبر مؤتمر حول العلاقات الخارجية تجمع فيه كل الخبرات السودانية والخبراء من دبلوماسيين سابقين وناشطين، لبحث أيسر وأسهل المسالك لاختراق جدار العداء الغربي ضدنا، وفتح مشكاة في الجدار السميك الذي يتصدع يوماً بعد يوم.. وليس هناك مستحيل على الإطلاق.