النسيج المترابط للقصة ودقة اختيار أبطالها وشخوصهم وأدوارهم وبراعة الصنعة وبراءة الاختراع والسيناريو وما فيها من الخيال الروائي، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن جدتي رحمها الله لو كانت على قيد الحياة لأثارت شكوكاً بأنها تقف خلف الجبهة الثورية وتحرك الشخوص والأحداث وتضع مسودة وثيقة الفجر القديم القادم من كمبالا.. وأنها تتفوق على الشيخ «الرفيق» الكودة بأنها تصنع الحدث.. وأنها ليست شيخاً يبحث عن الأضواء فيعدو لاهثاً خلف أضواء حدث!! أي حدث!! محدثاً بدعةً هي الأولى من نوعها.. بدعة سلفي تقدمي بلا إلحاد.. أو بإلحاد طفيف.. خفيف.. لا يُحدث فساداً في العقيدة.. لكنه يُسقط حكومة تقول لا إله إلاّ الله وتتطلع.. «تتطلع بس» لتحكيم الشريعة الإسلامية.. ومازال ولاة الأمر فيها حتى كتابة هذه السطور يؤذن فيهم بالصلاة مؤذن فيقيمون الصلاة.. والشيخ السلفي التقدمي الباحث عن الأضواء يصل متأخراً فينحني ويوقع وكان لا ينحني أو يقع لغير الله ينحني ويوقع بعد ذهاب أهل الدثور بالأضواء وانحسار البريق. تتحدث قصة جدتي عن حلف سياسي في «الغابة» بين الأسد والنمر والأفعى والمرفعين. والمرفعين للقراء الحناكيش هو حيوان «لحموي .. دموي» غير أليف ولا يأكل الرغيف.. يمشي على أربع.. شيمته الغدر.. وله ذنبٌ. وكان الحلف يقوم على المواطنة وإرساء دعائم الدولة المدنية على أنقاض الدولة الدينية.. وعلى التعايش السلمي.. وميثاق شرف بعدم التعدي على المعتقد الديني للحيوانات الموقعة على الوثيقة باعتبار أن الدين لله والغابة للجميع.. وأن تعمل الحيوانات الموقعة جاهدة فيما بينها لإنفاذ ما اتفقت عليه من الأجندة الوطنية، على أن يعذر بعضها بعضاً في ما اختلفت عليه من خصوصية المعتقد وتنوع أدوات النضال السياسي العسكري المسلح.. وما اختلفت عليه من منهجية الجمع بين خصوصية الخطاب التفسيري للموقف الانتهازي وعمومية تعدد أدوات النضال إنفاذاً لمطلوبات الدولة المدنية كفاحاً ونفاحاً حتى يبقَى الدين لله وتبقَى الغابة للجميع. وكان الثعلب قد شهد مراسم توقيع الميثاق المغلظ بكل «توضيحاته» بصفة مراقب، فأبدى «ملاحظات» على بعض البنود وتحفظ على أخرى، لكنه شدد على أنه سينضم للحلف في مرحلة لاحقة.. وأنه بما يملك من بُعد نظر ِ إنما جاء فقط لتبادل وجهات النظر.. وكانت وثيقة الحلف تتحدث صراحةً وتسكت ضمناً عن مواقف مبدئية وخطوط حمراء خاصة بكل عضو من أعضاء الحلف لا يسمح بتجاوزها أو التعدي عليها.. على أن تتحد المواقف وتتوحد الجهود وتتشابك الأيادي نحو الهدف الأسمى والمنعطف التاريخي من منعطفات قوى الشعب العاملة المتمثل في إرساء دعائم دولة المواطنة.. ثم تنظر مجموعة الحلف في مرحلة لاحقة في استحداث آلية للتوفيق بين مبادئ كل حيوان من حيوانات الغابة داخل الحلف وخطوطه الحمراء، وصياغة ميثاق عمل وطني يراعي تنوع الأهواء المتبعة، ويستجيب لتلك المبادئ الحيوانية. وكان من تلك الخطوط الحمراء حسبما جاء في القصة أن الأسد «ما بحمل النهرة»، أي لا يطيق أن ينهره ناهر.. وأن النمر «ما بحمل النظرة» أي لا يطيق أن يضع «ود مقنعة» عينه في عينه.. وأن المرفعين «ما بحمل الحَوْتة» .. والحوتة للقراء غير الحناكيش هي أن تأتي المرفعين من الخلف، أما شرحها بالنسبة للقراء الحناكيش ففيه ما فيه من المشقة والعنت لكن اعتبروها (Attack from behind) وهي ترجمة غير رسمية للعبارة .. والأفعي «ما بتحمل الفجغة» لا في الرأس ولا في الذنب!! الفجغة دي الحناكيش ممكن يتجاوزها.. المهم ابتعد الثعلب عن الحلف واكتفى بصفة مراقب وبدأ يراقب الموقف عن كثب حتى طلع صباح الكارثة.. جاء الثعلب إلى القوم في زيارة دورية عادية، فوجدهم في الرمق الأخير، فأجرى تحقيقاً عاجلاً لمعرفة أسباب الكارثة ومن يقف وراء الإبادة الجماعية وآثارها على السلم والأمن الدوليين. وخلص الثعلب إلى محصلة مفادها أن المرفعين خرج فجراً لحاجته، فجاء النمر والتفّ من وراءه في إخلال واضح بالمعاهدة وخرق لخط «أحمر» من خطوطها الحمراء، مما دفعه للالتفات إلى الخلف واضعاً عينه مباشرةً في عين النمر في خرقٍ فاضح لأحد الثوابت واجتياز واضح لخط آخر من الخطوط الحمراء، فوقعت الواقعة وهجم النمر.. هجم النمر على المرفعين وهجم المرفعين على النمر .. وتلاقت قممٌ يا مرحى.. وكانت الأفعى قد تسللت لتراقب الموقف عن كثب، فلما احتدم الصراع وارتفع العواء والصراخ استيقظ الأسد من نومه وخرج غاضباً من «مخبئه» ليستجلي حقيقة الأمر، فانتهرته الأفعى بعمل طائش من جانبها، وأردفت بلدغة قاتلة، فلم يزد الأسد على أن داس على رأسها بقسوة ودهسها دهساً. وجاء في تقرير الثعلب أن الكارثة الحيوانية أدت إلى إبادة جماعية، وأن أسباب الكارثة ترجع إلى أن ميثاق العمل المشترك بين حيوانات الغابة تغافل عن تناقضات عميقة في المكون النفسي والعقائدي بين الموقعين على الميثاق، وتغاضى عما بينهم من الثأرات القديمة، وأن إجماعهم الوطني كان حول مسألة تكتيكية مما نتجت عنه أخطاء إستراتيجية قادت إلى كارثة ما بعد التوقيع. وختم الثعلب تقريره بأن ما أصاب الغابة ودولة المواطنة فيها من درك البلاء وشماتة الأعداء مردّه إلى ما جاء في نصوص الميثاق من حتمية الوصول إلى الدولة «السندكالية» على مطية «العسكرتاريا»، وما جاء في نصوص أخرى من إشارات مبهمة في دولة المواطنة المرتقبة إلى حتمية التعايش داخل جزيرة رجعية في محيطٍ ثوريٍّ هادر. وأشرق في الغابة فجرٌ جديد.