مضت نحوٌ من سبعين عامًا على دخول حركة الاخوان المسلمين الى المجتمع السوداني وبروزها بقوة في واقعه السياسي والاجتماعي مدة بلا شك كبيرة مرت الجماعة خلالها بتطورات كثيرة ومتنوعة فمن حركة صغيرة في اوساط الطلاب الى حركة كبيرة انتظمت كل قطاعات المجتمع وكيان سياسي اصبح رقمًا هامًا خلال كل الحقب السياسية. هذا الحراك خلال هذه الحقب المختلفة شهد احداثًا ومشاهد لم تجد في نظري التحليل اللازم والدراسة المطلوبة لها لبيان خلفياتها وأسرارها. هذه المقالات محاولة للوقوف عند هذه الأحداث والمشاهد وما افرزته من تطورات وانقسامات قادت الى الواقع الحالي للجماعة التي يحملها الكثيرون بلا علم وتجربة الإنقاذ الحاكمة اليوم والتي احدثت من الدمار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلاد ما لا يمكن ان يحدث من حركة اسلامية حقيقية ويعذر هؤلاء بالالتباس الذي يوقع فيه وجود كثير من الرموز المحسوبة تاريخيًا على الجماعة دون ادنى المام بالتطورات التاريخية التي جعلتهم خارج جسم الجماعة خاصة ان هذه الفترة التي وقعت خلالها هذه التطورات لم يُقدم اي احد على كتابة تاريخها وتحليل احداثها فكل ما كتب لا يتجاوز الثلاثين عامًا الاولى فقط. واعتقد ان هذه مسؤولية جيلنا الذي التحق بالجماعة في سبعينيات القرن الماضي لأنه عايش وشاهد تلك التطورات بل شارك سواء بالسلب او الايجاب في صناعتها وهذه المقالات سعي مني للتصدي لهذه المسؤولية ودعوة لكل ابناء الجيل الى تقديم ماعندهم واليوم قبل الغد حيث ان واقع الجماعة الحالي يحتاج إلى وثبة شجاعة تنهض بها من وهدتها وتخرج بها من واقع التمزق والتشتت والازمة الكبيرة التي تعصف بها خارج دائرة التأثير في الواقع بكل اشكاله. ملخص لأبرز التطورات التاريخية: بدأت مجموعة من الوفود الاخوانية المصرية القدوم الى السودان سواء ابتعثها الاخوان او استغلالاً للوفود الرسمية من علماء ودعاة ازهريين او الاداريين حيث كان السودان يخضع للحكم المصري في اطار الحكم الثنائي وكان ذلك في مطلع الاربعينيات وكانت تتلمس المداخل لبناء تنظيم حركي للاخوان، وتشير المعلومات التي اخذتها من الأستاذ علي طالب الله رحمه الله انه التقى هذه الوفود وتلقى خطابًا من الامام البنا بتكليفه بالإشراف على بناء الجماعة بالسودان واستمر هذا الوضع عقدًا كاملاً تقريبًا ومعظم المجهود انحصر في نطاق المجاميع الشعبية بعيدًا عن مجال المثقفين رغمًا عن ان علي طالب الله رحمه الله كان واحدًا منهم حتى ظهرت حركة التحرير التي تكونت في الاوساط الطلابية وعندما حاولت الانتشار جاءت مجموعات من الطلاب السودانيين الذين درسوا بمصر والتحقوا بجماعة الاخوان هناك وتلاقحت المجموعتان وتكونت منهما حركة واحدة للتصدي للتيار العلماني الذي ازدهر في الأوساط الطلابية بقيادة الشيوعيين ثم حدث التطور الكبير بقيام مؤتمر 1954 الذي اعلن رسميًا عن تنظيم الاخوان المسلمين مما نتج عنه انفصال مجموعة حركة التحرير الرافضة للجماعة. وانعكاسات هذا الحدث على تطورات لاحقة وقعت في الجماعة سنتناوله بالتحليل مفصلاً في محله قريبًا بإذن الله. ركزت الحركة بين يدي الاستقلال السياسي للسودان بجانب نشاطها الدعوي والاجتماعي على العمل السياسي لتثبيت الهوية الإسلامية للحكم وتشكيل الدولة بدستورها وقوانينها على اساس اسلامي وذلك عبر حشد التكتلات الإسلامية المختلفة في إطار جبهوي لتعبئة الرأي العام وظهرت جبهة الدستور الإسلامي سنة «1956» ثم جبهة الميثاق الإسلامي سنة «1965» وتميزت هذه الفترة بمقاومة الحكم العسكري الأول في حركة نوفمبر والحكم العسكري الثاني خلال حكم مايو. ثم حدث تطور جديد وهو الانقسام الحركي في الجماعة إلى مجموعتين مجموعة تنادي بالتمسك بالمنهج التربوي الذي يعتمد على النشاط الفكري والاجتماعي لإحداث تغيير جذري في الواقع السياسي وتعتبر ذلك هو منهج الإخوان المعتمد للتغيير ومجموعة أخرى ترى العمل السياسي بكل صوره وأشكاله وما يقتضيه من أساليب اللعبة السياسية وقواعدها دون تقيُّد بمنهج الجماعة التربوي الذي يمثل عائقًا في نظرهم للعمل السياسي غير أن هذا الانقسام رغمًا عن وقوعه في 1969 إلا أنه تبلور بصورة عملية في نهاية السبعينيات عندما وقع تطور جديد حيث استطاعت المجموعة السياسية المصالحة مع نظام نميري ومشاركته في الحكم ولما سقط نظام مايو في منتصف الثمانينيات ظهر كيان سياسي باسم الجبهة الإسلامية القومية التي تمكنت في انتخابات 86 من الحصول على مقاعد مؤثرة «50 مقعدًا» في البرلمان مكنتهم من المشاركة السياسية الكبيرة في فترة الديموقراطية الثالثة والأخيرة. في المقابل استطاعت المجموعة الإخوانية التميز عن هذا الكيان السياسي في نهاية السبعينيات وحازت في وسط الثمانينيات من القرن الماضي سند التنظيم العالمي ودعمه وعندها أصبحت هنالك مجموعتان مجموعة تمثل الإخوان المسلمين فكريًا وحركيًا بقيادة الدكتور الحبر يوسف نور الدائم والأستاذ صادق عبدالله عبدالماجد والمجموعة الأخرى لا صلة لها بفكر ومنهج حركة الإخوان المسلمين بقيادة الكتور حسن عبدالله الترابي. ثم حدث أخيرًا تطور مفاجئ كبير وهو تمكن حركة الترابي من القيام بانقلاب عسكري حمل اسم ثورة الإنقاذ ووضع كل الإسلاميين بتياراتهم المختلفة أمام تحديات وأحداث تتفاعل في الواقع السوداني حتى اليوم. وهناك تطور آخر وقع داخل المجموعة الإخوانية وهو توالي الانقسامات داخلها حتى أصبحت ثلاثة تنظيمات واحد يحمل اسم الإخوان المسلمين والثاني يحمل اسم الإخوان الإصلاح والثالث يحمل اسم الاعتصام بالكتاب والسنة. وسأحاول خلال هذه المقالات بإذن الله أن أتناول هذه التطورات بشيء من التحليل والتفصيل لأحداثها متبعًا منهج الإنصاف والصدق والأمانة.