"نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركة الإسلامية الحديثة في السودان ومسألة التغيير الاجتماعي

نهدف إلى تقديم صورة أولية حول اتجاهات الحركة الإسلامية السودانية الحديثة ومشاركتها في إحداث التغيير في مجتمعها. وعن جهدها المبذول في هذه الناحية منذ الأربعينيات من القرن الماضي وإلى مجيء حكومة الإنقاذ الوطني في 1989م. وتسعى الورقة كذلك إلى بيان المدى العملي والدفع الواقعي لمجهودات الحركة وملاحظة الآثار المترتبة على ذلك.
وتهتم الورقة بشكل أساسي بالمفاهيم النظرية لعمليات التغيير الاجتماعي لدى قادة الحركة ومنظريها، وتبرز أفكارهم ودعواتهم للتغيير والأصول التي قامت عليها. تتجنب هذه الورقة الموجهات السياسية التي تبنتها الحركة الإسلامية في الدعوة إلى إصلاح الحكم والسلطة، سوى تلك التي ظهرت كعامل ذي أثر وخطر في الجانب الاجتماعي.
لقد أشبهت الحركة الإسلامية إلى حد ما تيارات سبقتها في الجهد الاجتماعي وفي قيادة دور رائد للتغيير والتحول نحو قيم الإسلام الراشدة، فقد بقيت آثار المصلحين والمجددين والعلماء من رجال التصوف الإسلامي وغيرهم تشكل خارطة التحول الاجتماعي في السودان، وتغذي العقل المسلم في البلاد، وتلهم الأمة وتوجهها نحو الثقافة الإسلامية، حتى غدت الذهنية السودانية تأخذ مادتها ومكوناتها من تصورات الوافد الإسلامي من المنطقة الإسلامية في بلاد العرب وأرض المشرق. وضعف إزاء ذلك المكون الإفريقي المسلم، وقل تأثيره مقارنة بروافد البعث الإسلامي القادم من الشمال والشرق، وعلى الرغم من وجود مؤثرات إفريقية خاصة وفدت عبر الرجال من غرب إفريقيا إلا أنها ظلت محدودة وكامنة تغالب الصحو النائم.
ويرى حسن مكي أن الحركة الإسلامية قدمت نفسها كحلقة من حلقات التجديد الإسلامي واصلة نفسها بتاريخ الإسلام في السودان ومستفيدة من تجارب الحركة الإسلامية السودانية ببعدها التاريخي (فقهاء، متصوفة، حركات دعوة وإرشاد وتعلم، فونج، عبدلاب، سلطنات الفور والمساليت، وانتهاء بمجهودات الميرغني الكبير وجهود محمد أحمد المهدي) وهي تتحرك بكل هذا الإرث وهذا العمق
وفي الواقع ليس من الصحيح والصواب لفظ الامتداد الجذري والتاريخي للحركة الإسلامية وإقصاؤه بعيداً عن مسارات المد الإسلامي والإصلاحي للحركة، لأن في ذلك ضرباً من التضييق، وتفسيراً خاطئاً لمكونات الحركة الإسلامية وأصولها التاريخية. ولم ينكر قادة الحركة هذا المنحى فقد وصف حسن الترابي هذا الاتجاه في الربط التلقائي بين بواعث الحركة الإسلامية الأولى، والإرث التقليدي الإسلامي في السودان بأنه: (استمداد من التدين العرفي) لكنه أضاف عاملاً آخر، كان سبباً مباشراً في حركة النهضة والبعث والصحوة الحديثة، هو صدى الصحوة الإسلامية العالمية بتطوراتها التاريخية وتوجهاتها الفكرية، ولذلك نشأت الحركة مقبلة على الأدب الحركي الإسلامي الوارد من مصر وباكستان وغيرهما، واعتبرت كيانها جزءً من الحركة الإسلامية العالمية.
وهناك جانب آخر في هذه المسألة وهو أنه على الرغم من الإيمان والاعتراف بحلقات التغيير التي أصابت المجتمع السوداني وقادته في فترات مختلفة، إلا أن هذه الحلقات التقليدية وفي إحدى مراحلها، ضمرت وضعف مددها، وغدت مواتاً بعد حياة، وأصبحت الدعوة بها ثمرة ذابلة، وتحولت الدعوة إلى طائفة على حد تعبير حسن الترابي أو فرقة جامدة منحصرة. ومن هنا نبعت الحاجة إلى الإحياء والانتشار من جديد وهكذا كانت علاقة الحركة الإسلامية بالمجتمع صورة جديدة من صور التغيير، وباعثاً حقيقياً للتحول، ومنهجاً آخر للخطاب والطرح البناء، ولذلك نلاحظ أن حسن الترابي، في هذا المقام نعت حركة الجمود التي أسماها (الطائفة): (الانحصار، والاقتصار، والتقليد، والحذر من كل طريف وغريب).
وكما رأينا فإن الحركة الإسلامية اعتبرت وجودها كسراً للجمود وخروجاً عن المألوف، وتوسعاً في مظاهر البعث الجديد، في إطار علاقاتها مع المجتمع السوداني، فإذا الحركة الإسلامية في تصورات قادتها هي: (ظاهرة الانتقال من مجتمع الجمود والطوائف والتخلف إلى مجتمع الحياة والدعوة والتقدم، فمغزى الحركة إنما يكمن في صلتها الأوثق بالمجتمع وفعلها الأوقع في تغييره).
الحركة الإسلامية والمجتمع:
مفهوم المجتمع: لفظ مجتمع يطلق عادة على مكان الاجتماع، ويطلق مجازاً على جماعة من الناس خاضعة لقوانين ونظم كالمجتمع الإنساني، بصرف النظر عن كون هذه الجماعة تسكن القرية أو المدينة أو البلد أو حتى القارة، كأن يقال: (المجتمع الإفريقي) وكذلك بصرف النظر عما إذا كانت تلك الجماعة تدين بدين واحد أو بأديان متعددة، أو تحترف مهنة واحدة أو أكثر، كأن يقال: (المجتمع المسيحي) أو (المجتمع الكاثوليكي) أو (مجتمع المعلمين) و(مجتمع العلماء) أو قد يطلق على البشرية برمتها فيقال: (المجتمع البشري). وعليه فحيثما أمكن العثور على وجه جامع واتجاه موحد لجماعة من الناس صح إطلاق كلمة (المجتمع) عليهم، سواء أكانت الجماعة قليلة في قرية صغيرة، أم كانت تشمل البشرية كلها.
ويعتقد أحد الباحثين أن جذور الحركة الإسلامية انبثقت من المجتمع خاصة في منهاجها التربوي، فهو يقول إن رأي علماء التربية أن منهج التربية لا بد أن ينبثق من الجذور التاريخية والثقافية للمجتمع، وأن أي تغيير في ثقافة المجتمع لا بد أن ينعكس عليه، وهو يظن أنه عند إخضاع ذلك المفهوم على منهج التربية عند الإخوان المسلمين في السودان، فلعل ثمة ما يؤكد ذلك، حيث إن المنهج لديهم برز من الجذور التاريخية لثقافة السواد الأعظم من أهل السودان، والتي يغلب عليها الطابع الإسلامي، والذي شكلت ملامحه بصورة واضحة في فترة نشأة السلطنات الإسلامية.
وقد استهدفت الحركة الإسلامية منذ تأسيسها مجتمعها الذي تعيش فيه بصورة واضحة، فقد ورد ضمن دستور جماعة الإخوان المسلمين في المادة الثالثة، التعريف، ما يلي:
(الإخوان المسلمون جماعة إسلامية تتربى بالتدين وتسعى بالدعوة والجهاد لإحداث تغيير اجتماعي من أجل تمكين قيم الإسلام في المجتمع وإقامة حدوده).
فهذا التعريف يوضح أهدافها بشكل جلي، كما أنه يبين إلى أي درجة تؤمن الحركة بعملية التغيير الاجتماعي، وتهتم به وتوليه عناية قصوى، وقد جاء هذا التعريف في فاتحة دستور الجماعة بما يبين حقيقة مراميها.
وأفرد الدستور الخاص بالجماعة في مقام آخر، فصلاً لأهدافها الاجتماعية، فجاء في المادة (28): (تسعى الجماعة لتعميق الإيمان بالله وبث روح التدين، وتجلية العقيدة من الشرك ومن الدجل والشعوذة والخرافة والأوهام، وتسعى لإيجاد مجتمع متسامح يسوده التآخي، ويتعالى على عصبية القبيلة والعرق والطائفة، كما تأخذ الجماعة بمبدأ التخطيط الاجتماعي، بما يحفظ تماسك البنية الاجتماعية، ويرعى روابط الجوار والقربى، ويعمق القيم الفاضلة، ويمحو الآثار السلبية التي يفرزها التطور العشوائي في المجتمعات العشوائية).
وتحدثت المادة (29) عن الأسرة، اللبنة الأولى لقيام المجتمع فركزت عليها وقررت أنها تسعى عبر الجماعة إلى تقوية آصرتها وذلك بتسهيل الزواج وتشجيعه ورعاية الأمومة والطفولة وإصلاح قوانين الأسرة حتى تقوم على المعروف والإحسان وفقاً لهدي الدين.
أما المادة التي تليها من الدستور، المادة (3) فقد أفردت حيزاً للمرأة والنهوض بها، ورفع الظلم الاجتماعي عنها، ودعت إلى تمكينها من ممارسة حقوقها العامة في بناء المجتمع، وتحريرها من الجهل، والخرافة والتقليد صوناً لشخصيتها المستقلة. وجاء في المادة (31) أن الجماعة تعمل على ترقية الوعي الاجتماعي بين الناس بإشاعة التعليم وتوسيع فرصه وتوجيه برامجه، وربط المدرسة بالبيت والمجتمع وتوظيف وسائل التوجيه والإعلام. وركزت المواد التالية من الدستور على الشباب وتربيته على التدين الواعي وعلى إقامة مؤسسات التكامل الاجتماعي، وتشجيع قيام جمعيات البر والإحسان والتعاون، ونادت بتطهير المجتمع من الجريمة والفساد وتخليصه من مظاهر التحلل والانحراف، وسائر الأمراض الاجتماعية والعادات الدخيلة.
وهكذا صورت الحركة الإسلامية برنامجها الاجتماعي، وحرصت على أن تعتبر ميدانها الأهم والأمثل ومعتركها الأكبر هو المجتمع. واعتبر حسن الترابي أن الحركة في صلتها بالمجتمع مرت بمرحلتين هما مرحلتا: السر والعلن، فقد سادت في مراحلها الباكرة روح الإسرار والحذر المفرط، وكان ذلك اعتباراً بما مرت به الحركة الإسلامية في مصر من اضطهاد، وقد اتعظت الحركة في السودان من ذلك، وهكذا كانت الحركة تلتزم سرية بالغة في وجودها، وحصراً شديداً لعضويتها واقتصاداً حذراً في دعوتها وعملها وعندما جاءت حكومة الفريق إبراهيم عبود العسكرية، وصلت الحركة إلى حد الرعب وقادها ذلك إلى شبه تجميد شامل لحركتها طوال السنوات الأولى منذ ذلك العهد. واعتبر حسن الترابي أن تلك الفترة لم تصب الحركة إلا بالتعويق في دعوتها، ثم وصل الأمر برجالها إلى اعتقادهم بعدم جدوى تلك الإجراءات فاتخذت سبلاً جديدة لظهورها العلني، عبر الواجهات من أجل بسط الدعوة، ولم تلجأ إلى الشمول السافر، ثم تطور الأمر فأصبح العلن غالباً، ومع نفحة العافية والحرية بعد مايو تهيأت الحركة لمرحلة العلن الأكبر، فجعلت مؤتمر تأسيس الجبهة الإسلامية على ملأ من الرأي العام، ثم مضت في مؤتمرها الثاني فأخرج التنظيم كله أهدافه ووسائله ووظائفه وأشكاله وحدوده ورجاله
ويعتقد د. الترابي أن هذا الظهور العلني أفرز جدلية أخرى في بناء التنظيم الحركي وفقهه، وهي المحاذير الأمنية، وأعمال التوقي والاحتراز، وما يتضمنها من مسائل مراقبة واستعلام وتحسس وتجسس على الآخرين، وثارت تساؤلات حول مدى مشروعية هذه الأمور، ومدى جوازها، وقد أصدرت الحركة ورقة حول الأمر تبين طبيعته وأصله وفروعه.
امتلكت الحركة الإسلامية السودانية، في ظهورها الأول، فكراً مجتمعياً واضحاً، أساسه مجالدة المظاهر الفاسدة والعلل المنحرفة في واقع مجتمعها، وقد استمدت تلك الرؤية من الحركة الأم في مصر، وتشبهت بها حيث كان حسن البنا يمثل صورة زاهية لمصلح اجتماعي فريد، يقود التغيير ويدعو إليه، ويحمل همه بصدق، وورثت الحركة في السودان إرثاً كبيراً في هذه الناحية التبشيرية والإصلاحية. فليس غريباً إذا أن يأتي البناء النظري للحركة في السودان مشتملاً على تعاليم تأسيس العمل على إصلاح الواقع وتغيير المجتمع.
ويعتقد د. حسن الترابي أن المرحلة الأولى للحركة في السودان كانت الجماعة تركز فيها على ذاتها وأفرادها، ولم تكن تحفل بمن ينصرها من صف المجتمع، مستغنية عن الناس لضآلة ما تحمل من أمانات ومهمات، لكن الحركة على حسب اعتقاده منذ تكلفت التكاليف في نصرة قضايا الإسلام في الحياة العامة، واتخذت الوسائل في التربية والدعوة والجهاد، وانفتحت وتخلت عن انتقائيتها وصفويتها، منذ ذلك الوقت لم تعد متمحورة على نفسها عاكفة على أمرها الداخلي وشأنها الخاص، ولا مقتصرة في التعويل على صفها المأمون، بل مدت نظرها وذراعها إلى ما وراءه من الناس.
وهذا الكلام في ظاهره العام بطبيعة الحال مقبول، لكن الحركة الإسلامية في انطلاقتها كانت تعلم أن هدفها الأول هو المجتمع وأن حقل عملها هو الناس وحياتهم، ولذلك فإن شباب الإخوان الأوائل عندما حملوا دعوتهم كانوا ينادون بالتغيير وإن كان ذلك يتم في إطار ضيق وفي مجال محدود.
وفي الواقع إن النهضة الكبرى التي أسستها الحركة الإسلامية في صلتها الكبرى مع المجتمع، بدأت في الستينيات من القرن الماضي ومع وجود الترابي في قيادة الحركة، ومن الواضح كذلك أن الرجل قدم للحركة المحدودة النخبوية أعظم من يمكن أن يقدمه قائد لمجموعته، وهو الإيمان بنظرية الانفتاح والتوسع والإقبال على الآخر، بعيداً عن نظرية التحول البطيء والتدرج الطبيعي. إن كسر ذلك الحاجز شكل للحركة تحدياً قوياً في إثبات الذات وتحمل عبء مخالطة المجتمعات غير الصفوية، وقبول مستوى أقل من حيث التدين والتمسك بالشريعة أعضاء في صف الحركة، وكانت تلك نقلة نوعية، وتحولاً استثنائياً في التطور التاريخي للحركة الإسلامية. إن هذه التغييرات في طبيعة الحركة وانفتاحها على المجتمع، لم يكن خيراً كله، فلقد كانت له مثالبه الواضحة، إذ إن التخلي عن جماعة النخبة في رأي خصومها قدر أورث الحركة ضعفاً في مناهجها التربوية الإسلامية، كما أنها تجاوزت عن العديد من أوجه الصرامة والقياس الدقيق في تخير عضويتها، وكان هذا جزءاً من الإشكالات التي أوقعت الحركة في الانقسام التاريخي والذي تجلت مظاهره مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي. ومن الجائز جداً القول إن نظرية توسعة المواعين لم يكن من خلفها هدف إصلاحي واضح أو رؤية تغيرية مثلى على المستوى الاجتماعي، ويبدو أن الهدف الأهم من وراء هذه العملية هو كسب صف جديد يضمن للحركة تواصلها السياسي مع المجتمع ويعطيها الدينامية والفاعلية المطلوبتين في عمليات الكسب السياسي. ولهذا تجد الترابي يشير إلى هذا المعنى بقوله: ( أما حملات الاستعانة بالمجتمع فقد استدعاها عجز الجماعة أن تقوى على القيام ببعض المهمات في الحياة العامة إلى أن تتقوى بغيرها، وكانت أولى القضايا التي استدعت ذلك هو قضايا تركيز التوجه الإسلامي في السياسة السودانية بعد الاستقلال ومكافحة الشيوعية) ثم يستدرك الترابي على هذا البعد السياسي ليضيف: ( ولم تقتصر الحملات الشعبية المشتركة على أغراض السياسة بل استهدفت أحياناً الإصلاح الاجتماعي وغيره).
وهذا تصور واضح يبين الأهداف التي من أجلها سعت الحركة لضمان تأييد المجتمع، وتوفرت من خلال ذلك فرص لحشد أفراد جدد في التنظيم الإسلامي، وللتفاعل مع المجتمع، فالجهد السياسي ومنطق الصراع حول مبادئ الحركة وقيمتها وتمكين هذه القيم وتمكين رجال الحركة كان هو الهدف الغالب في نظرية التحول نحو المجتمع وتوسعة المواعين. ومن الضروري أن نذكر هنا أننا لا نختزل تجربة التغيير الكبرى في مستويات المرأة والشباب وطرح المنهج الإصلاحي في التجديد وتطهير الفنون وغيره في هذا المعنى وحده، ولكننا نفترض وفقاً للنص السابق للترابي أن الهدف الأبرز في هذا البعث كان الوصول إلى السلطة عبر المجتمع، وربما توفرت نيات أخرى في هذا الجانب تدخل في إطار الإصلاح لكن حجمها ودرجتها وقيمتها لا يمكن قياسها بأي حال من الأحوال بمقصد استخدام التحولات الاجتماعية لتحقيق مكاسب سلطوية.
ولعل أبرز ما يمكن أن يؤيد رأينا هو أن الحركة الإسلامية بقيت تواقة إلى الزعامة والحكم والوصول إلى سدته عبر أكثر من طريق. وقد تعرّض الطيب زين العابدين إلى إشكاليات التحول نحو الجماهير عبر نبذ التنظيم الصوفي وإبعاده، فذكر الرأي القائل باستحالة تطبيق التغيير الإسلامي دون وجود تنظيم صفوي تربت كوادره على قيم الإسلام وفكره عبر سنوات، وخلص إلى مسألة متوازنة وإلى أنه ليس ثمة بأس أن يقوم تنظيم صفوي يعنى بتربية الشباب دون أن يخوض في العمل السياسي بكل أبعاده الانتخابية النيابية والتنفيذية، وذلك رغم وجود تراث كبير لدى الحركات الإسلامية يدعو إلى نظرة شمولية للإسلام
إن تجربة الحركة الإسلامية في توسيع دائرتها ظلت مستمرة وقائمة منذ الاستقلال بما يؤكد فكرتنا السابقة أن الهدف الرئيس في هذه العملية هو الكسب السياسي حيث تم تأسيس الجبهة الإسلامية للدستور التي أقامت مؤتمر لجانها الفرعية الأول في مايو سنة 1956م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.