لعبت الصدف والأبحاث والتجارب دوراً فعالاً في الوصول لاكتشاف في أعظم عقار استفادت منه البشرية عبر تاريخها الحديث، وكنت أحد الذين يهتمون بدراسة وتتبع اكتشاف البنسلين ذلك العقار الذي خفف آلام وأوجاع ملايين البشر وأعاد البسمة لهم من جديد، ويجب على كل إنسان أن يعرف مدى أهمية وفاعلية هذا الدواء العظيم الذي لا يخلو بيت منه. وترجع قصة اكتشافه إلى فبراير 1941م عندما كان يرقد شرطي إنجليزي على فراش الموت في مستشفى رادكيف القديمة في أكسفورد، ويبلغ من العمر 43 عاماً، وكان قد أصيب أثناء حلاقة ذقنه بخدش بسيط من الموسى بجوار فمه وهذا شيء عادي لمعظم الناس، ومن سوء حظ هذا الشرطي أن هذا الخدش سرعان ما تحول إلى مضاعفات أدت إلى مرحلة متقدمة من التسمم الدموي وضيق في التنفس وظهور فقاعات دموية، وغزا جسمه نوعان من الجراثيم الضارة هما الميكروبات السبحية الدقيقة وميكروب العنقودية المسبب للصديد والعفونة، وتكاثرت هذه الميكروبات داخل جسمه، وفشل جميع أنواع العلاج من مركبات السلفا في تحسين صحة الشرطي بعد تناوله عقاقير كثيرة لم يكن لها أي أثر يذكر. ووقف الأطباء في حيرة مما يحدث أمامهم من ظاهرة غريبة ولم يبق أمامهم وسيلة للعلاج سوى مساعدة أجهزة جسمه الدفاعية بنقل الدم، ولكن هذه الطريقة أيضاً لم تغير الحال، وزادت حالة المريض حرجاً وضعفت قواه وفقد القدرة والمناعة في تناول غذاءه وأيقن الجميع في المستشفى أن هذا الشرطي لا أمل في حياته ومصيره الموت، وقبل هذه الحالة الغريبة بسنوات كان العالم الإنجليزي الكسندر فلمنج يجرى أبحاثه في علم الميكروبات بمستشفى سانت ماري بلندن في عام 1938م لاحظ ظاهرة غريبة شدت انتباهه وجعلته يدقق النظر وهو مندهش لما يجري أمامه، وقد شاهد في أحد الأطباق المزروع بها أنواع متعددة من الميكروبات المرضية التي تسبب الالتهابات، وأعرب عن وصفها قائلاً: عندما كنت أقوم بزراعة بعض السلالات من ميكروب ستافيلو كوكس كانت تنزل هذه المزارع لمدة معينة من المنضدة ثم أقوم بفحصها في المعمل وعند فحصها كانت تتعرض للتلوث بميكروبات الهواء الجوي ولاحظت عند فحص هذه الميكروبات وجود فطر ملوث في الهواء جعل نمو ستافيلو كوكس الذي نقوم بدراسته شفافاً، وتبين جلياً أنه سيموت وعزلت هذا الفطر وأجريت عليه تجارب خاصة لدراسة بعض خواص هذه المادة المحللة للميكروبات التي تتكون في مزرعتي والتي تكاثرت في البيئة المزروع بها ميكروب ستافيلوكوكس، ووجدت أن المزرعة المعدة لهذا الفطر تكتسب صفات غريبة الخواص بعضها قاتل وبعضها محلل لكثير من الميكروبات، وبعد نشر قصة هذه التجارب أجمع العلماء أن المقادير هي التي لعبت دوراً في حياة العالم الكسندر فلمنج. ففي مثل هذه الحالات الغريبة التي شاهدها فلمنج عادة ما يقوم العلماء والباحثون بالتخلص السريع من هذه المزارع وإتلافها وتطهير مكانها، وإنشاء مزارع جديدة، لكن الإلهام الإلهي جعل الكسندر يستمر في أبحاثه رغم خطورة الفطريات ليكتشف للعالم هذا الدواء العظيم. فلو فعل الكسندر ما يقوم به العلماء من تجارب وحذر لما توصل إلى اكتشاف هذا العقار، وهنا صدقت مقولة العالم شارل نيكول إن الصدفة لا تقبل إلا على من يغازلها. وهذا ما حدا بالعالم فلمنج لمتابعة هذه الظاهرة ويدرسها، وبعد أن عرف فلمنج خصائص الفطر وحدد أنه نوع من البنسليوم، أجرى عليه تجارب في البنيات الصلبة والسائلة، وسأل نفسه بعد أن اقتنع بما يقوم به هل جميع الفطريات بنساب مثل هذه الفطريات؟ وأجرى أبحاثاً على ستة فطريات أخرى لكنه لم يتوصل إلى تأثير مباشر لنمو البكتريا لأي منها. وكان السؤال الذي يدور في ذهن فلمنج منذ اكتشافه لهذا الفطر، هل قوة هذا المحلول شديدة البأس وهل يؤدي استخدامها في علاج الأمراض؟ وفي محاولة للإجابة عن هذا السؤال أجرى تجربة أضاف من محلوله الجديد على عينة من الدم، وظل يراقبها تحت عدسات المجهر ليتعرف على مدى تأثير هذا المحلول على كرات الدم البيضاء، وبعد مضي وقت معين لم يظهر أي أثر ضار على كريات الدم البيضاء، ثم أجرى تجارب عديدة على بعض الحيوانات، فقام بحقن بعضها بعد أن أصاب صناعياً بالمرض بجرعات من المحلول وثبت بعد هذه التجارب أن محلوله يقتل البكتيريا وليس له مضاعفات أو أي أثر على جسم حيوانات التجارب. كانت هذه التجارب كفيلة في دفع أبحاث فلمنج لأبعد من ذلك وتجربتها على الإنسان، ولكنه كان يخشى العواقب ومحاكمته، فلعبت الصدفة ثانياً دوراً بارزاً في أبحاث فلمنج من أقرب الناس إليه مساعده في المعمل «كرادوي» الذي كان يشكو التهاب مزمن في جيوبه الأنفية، وشكا مراراً لفلمنج من شدة الألم ولم ينجح أي علاج في تخفيف آلامه فعرض عليه فلمنج أن يجرب عقاره الجديد في علاجه فوافق كرادوي أملاً في أن يُشفى من هذا المرض المزمن، وبدأ فلمنج في علاج مساعده بأن قام أولاً بعدّ الجراثيم الموجودة في الجيوب الأنفية ووجد بها مائة خلية صغيرة من ميكروب ستنافيلوس كوكس إلى جانب بعض الميكروبات الأخرى، وأول ما قام به غسيل الجيوب الأنفية بمحلول من مزرعته التي نما فيها الفطر، ولاحظ بعد ثلاث ساعات من غسيل الجيوب الأنفية اختفاء جميع البكتريا ما عدا واحدة فقط ظلت على قيد الحياة، وتلاشت معظم الميكروبات الأخرى ولم تظهر أي آثار أو مضاعفات لهذا المحلول. وشعر كراودي براحة تامة وعاد تنفسه طبيعياً ونام لأول مرة من دون شخير. وبعد نجاح هذه التجربة الفريدة التي تكللت بالنجاح أطلق العالم الكسندر فلمنج على هذا العقار اسم بنسلين نسبة لاسم الفطر «بنسليوم» الذي ينتجه، ومن هذا أصبح هذا الاسم علمياً، وعملت به كل الأبحاث الطبية وعرف العالم دواء البنسلين. وبعد هذه التجربة التي حققت نجاحاً في علاج الإنسان نشر فلمنج في يونيو 1929م تقريراً عن البنسلين وقدمه للهيئات الطبية البريطانية، ولكن لم يتحمس لها الرأي العام ولم يستقبل هذا البحث بالترحاب، وقد أصيب العالم فلمنج بخيبة أمل وظن أن بحثه سيكون على البنسلين محل إعجاب وتقدير، ويرجع أسباب الفتور الذي قوبل به تقرير فلمنج أنه فشل في الحصول على البنسلين في صورة نقية خالية من المواد الكيميائية، ولكن فلمنج لم يقف عند هذا الحد، بل ظل يجري أبحاثه ولم يعبأ بما قيل عن بحثه الذي قدمه، وفي عام 1932م نشر فلمنج بحثاً مطولاً عن البنسلين فحدد خصائصه وفائدته في قتل الميكروبات وعلاج الجروح المتقيحة مستنداً إلى تجربته لمساعدة كراودي وأثبت أن البنسلين يقتل الميكروب المسبب للصديد ولا يؤثر على جسم المريض. واختتم تقريره أن البنسلين يصعب تحضيره والاحتفاظ به لمدة طويلة بحيث يتسنى تعميمه في العلاج. ووقفت أبحاثه عند هذا الحد ولكنه فتح الطريق أمام الباحثين لمواصلة أبحاثه.