المتتبع لسيرة الغربة والاغتراب السوداني الطويل والممتد عبر عقود من الزمان، يقف متسائلاً ومندهشاً في نفس الوقت لماذا لم يفلح الاغتراب السوداني في تأسيس الشركات في مختلف الأنشطة أو إنشاء المجمعات التجارية والصناعية رغم الإمكانات الكبيرة التي تزخر بها البلاد، ولماذا عجز الفكر الاستثماري الحكومي والأهلي عن استيعاب مدخرات المغتربين في مختلف المهاجر؟ في الوقت الذي نجد فيه غيرنا من البلاد قد جعلت من رؤوس أموال المهاجرين المغتربين رافدًا كبيرًا لميزانياتها، وفتحت لرؤوس الأموال هذه المنافذ وسهلت لها إجراءات انسيابها واحتضنتها بالحماية والضمانات المشجعة، وبالتالي ضمنت استمرارها وزيادتها. كما أن السوداني بطبيعته يفتقر للفكر الجماعي حتى داخل محيطه الضيق، لذلك دائماً ما تكون خطط وأفكار العمل الجماعي مرفوضة منه مسبقاً، علاوة على أن التجارب السابقة الفاشلة دائماً ما تكون سوابق تجعل الفكرة الجديدة مرفوضة، أضف لذلك عقلية المكاجرة التي يتحلى بها الأغلبية من النسيج السوداني والذي بطبعه دائماً يهوى النقد بدلاً من التقويم والتشجيع ويدمن النظر إلى الجزء الفارغ من الكوب. ولكن الجانب الإيجابي للمغترب السوداني كان في اهتمامه وحرصه الشديد على تعليم أبنائه، وحرصه أيضاً على أن يكون تعليمهم تعليماً متميزاً في أغلب الأحيان، لذلك أعتقد أن تجربة الغربة السودانية قد فشلت تجارياً للأسباب التي ذكرتها وغيرها من الأسباب، لكنها كانت ناجحة جدًا في جانب الاستثمار الأسري في تعليم الأبناء والعمل على أن يكونوا متميزين أكاديمياً، وبالتالي أجزم بأن من إيجابيات تجربة الاغتراب السوداني التي يجب أن تدرس وتطور وتوجه هي قصة حكاية اهتمام الأسر المهاجرة بتعليم أبنائها، وبذلك يكونون قد قدموا لدينهم ووطنهم أعضاء فاعلين ومفيدين ليساهموا في رفعة وطنهم وأهلهم. في منتصف 1988م كان ميلاد ابني البكر الدكتور أحمد، ومازالت أحداث تلك الليلة محفورة في الذاكرة بكل تفاصيلها حتى الصغيرة منها، مع أنني في الآونة الأخيرة أصبحت تتلاشي من ذاكرتي حتى الأحداث الكبيرة. مرت السنوات سراعاً وتسربت كحبات رمل ناعم من بين أناملنا، وتسارعت خطاها ولحظاتها وكأنها هاربة من مجهول مرعب، وفي غمرة زهونا وغرورنا ونحن مفتونون بفتوتنا وشبابنا ما كنا نكترث للأيام تمضي والسنوات تزحف وتطوى في احترافية عالية تقاسم ذلك الزهو والفتوة والشباب. وولجنا إلى عالم التربية الأسرية دون أن نضع لذلك برامج أو حتى دون أن يشغل ذلك أدنى حيز من تفكيرنا واهتمامنا. وسارت الحياة مطوفة بنا محطات عديدة والغربة تجرد حسابها يومياً معنا في كل ساعة وكل لحظة في صرامة لا تتخللها أية تنزيلات أو تخفيضات موسمية، فهي تتعامل مع أعمارنا باعتبار أن تمدد لحظاتها كُلها موسم تجاري مرتفع الثمن، إذن لماذا التخفيضات والزبون راضٍ ومتحدٍ ومستعد للشراء في عناد ضحكت منه الغربة نفسها. ووصلنا محطة تعليم الأبناء وصحونا على مرحلة فيها الكثير من مفترقات الطرق والتقاطعات الخطرة، ولكن مازال هنالك مخزون من عنادنا وفتوتنا. ومضت السنوات متتابعة ورتيبة تشبه بعضها بعضاً وكأنها فلنكات قضبان السكة الحديد ولكنها في كل هذه الفترات لفتها حيرة عميقة لم تصل إلى نهايتها ولم تقو على احتمالها، كما لم نستطع فهمها أو تفسيرها فأضحت لغزاً وسراباً تجري من خلاله بلا «ميس» أو نهاية. وفي تقديري هذه هي الغربة ولكن بين الفينة والأخرى تدخلنا إلى محطات مفرحة وطيبة كمولد الأبناء ونجاحهم ثم زواجهم، فهي محطات تحدث في الغربة ليتزود المهاجر بالطاقة اللازمة للانطلاق مرة أخرى، ولتدور محركات عناده السابق ويطفق يلهث في مضمارها مرات ومرات. ودخلت المحطة الأولى عند ميلاد ابني أحمد المسمى تيمنًا بسيد البشر صلى الله عليه وسلم، واقتداءً بجده لأبيه «عديل البلد» أحمد ود حضيري. ثم أدخلني الدكتور أحمد المحطة الأخرى عند تخرجه طبيباً في جامعة الخرطوم قبل أيام قلائل، وعندها أدركت حقيقة مهمة في حياة الاغتراب وهي شاملة في معناها لكل الأسر المهاجرة، وهي أن الابن «أو الابنة» الصالح، الناجح البار هو الاستثمار الحقيقي في الدنيا والآخرة، فهو في الدنيا السند والعزوة والضل لأهله وأسرته بعد عناء الغربة الممتدة، وفي الآخرة هو الأثر الباقي لك «ابن بار يدعو لك» والصدقة الجارية الطيبة التي لا ينقطع عمل ابن آدم عنها، فأي خير وأي نعمة هي، ونحمد الله كثيراً ونسأله جلت قدرته أن يحفظ أبناءنا وبناتنا جميعاً ويجعلهم بررة بدينهم ووطنهم وأهلهم، وأن ينفع بهم الدين الحق، العدل والحرية، وأن يرينا فيهم ما يسرنا ويقرُّ أعيننا بهم، وله نحمد وبه نستعين.