أشعل ثوار جنوب السودان المعارك في أرجاء عديدة من الجنوب، لتحريره من قبضة الحركة الشعبية وهيمنة قبيلة الدينكا. سيطرة الدينكا على مفاصل دولة جنوب السودان وهيمنتهم على السلطة والسلاح والثروة وتهميش كل القبائل سوى الدينكا، نجم عنها رد فعل عنيف وحنق عميق في أوساط مختلف قبائل الجنوب من أعالي النيل إلى الإستوائية. وقد سقطت اتفاقية أديس أبابا من قبل بسبب الصراع بين الدينكا والإستوائيين. ونجم عن سقوطها تجدُّد اشتعال الحرب الأهلية في الجنوب عام 1983م. حيث استمرت لمدة عشرين عاماً. اليوم بدأت حركة ثوار الجنوب تنطلق من مختلف الولاياتالجنوبية لإسقاط الحركة الشعبية عن الحكم، وكسر سيطرة الدينكا على الجنوب الذي انفردوا بحكمه، على حساب بقية قبائل الجنوب الأخرى بلا استثناء. وصول حركة ثوار الجنوب إلى أهدافها، يعني سقوط اتفاقية نيفاشا كما سقطت اتفاقية أديس أبابا. الصراع السياسي والقبلي الذي أسقط اتفاقية أديس أبابا، سيقود لا محالة إلى نفس النهاية بإسقاط اتفاقية نيفاشا. يُشار إلى أن الصراع السياسي والقبلي داخل الحركة الشعبية، ظلّ بصورة منهجيَّة يسير في مسار متواز مع (الحركة) منذ نشأتها. وقد ظلت الحركة الشعبية طوال الثمانينات والتسعينات وما بعدهما، ساحة مشتعلة بالصراعات السياسية والصدامات المسلحة. الرَّصد الدقيق لتكوين الحركة الشعبية وصراعاتها الداخلية والقبلية، يُبرز بوضوح المصير الذي ستنتهي إليه الحركة الشعبية، ومآل دولة جنوب السودان. الإبحار في رحلة الصراعات السياسية والقبلية داخل الحركة الشعبية، يكشف النهاية الحتمية للحركة الشعبية ونظام الحركة الشعبية في جوبا. الإبحار في رحلة الصراعات القبلية داخل الحركة الشعبية، يكشف رحلة الحركة الشعبية من المهد إلى اللحد. في ذلك السّياق تجدر الإشارة إلى أن بدايات تكوين الحركة الشعبية ترجع إلى حقبة ما بعد أحداث (أكوبو)، عندما تمردت مجموعات من قبائل أعالي النيل (نوير، شلك، أنواك) ودخلوا الأراضي الأثيوبية وأنشأوا حركة تمرد أسموها أنيانيا (2). (أنيانيا) تعني الأفعى. وكان في قيادة أنيانيا (2) المتمردون (أكوت أتيم) و(صمويل قاي توت) و(وليم عبد الله شول). ثم افتتحت أنيانيا (2) معسكراتها على الحدود السودانية الأثيوبية، وانضمّ إليها على فترات متلاحقة عدد من السياسيين الجنوبيين، كان من أبرزهم (جوزيف أدوهو) الذي اشتُهر بتمرده وتطرفه منذ الستينات. بعد سقوط اتفاقية أديس أبابا، وفي مايو1983م، انفجر الصراع المسلّح في جنوب السودان. وتمرد قائد حامية (بور) كاربينو كوانين وقائد (البيبور) سلفاكير وقائد (أيود) وليم نون. ودخلوا الغابة متجهين إلى الحدود الأثيوبية للحاق بقوات (صمويل قاي توت). ولحق بهم جون قرنق الذي وصل (بور) قادماً من الخرطوم عن طريق جوبا، ليقضي إجازته السنوية!. بعد عشرة أسابيع من مغادرته بور متجهاً إلى الأراضي الأثيوبية، أي في 31/ يوليو 1983م، أصدر جون قرنق الإعلان السياسي بتكوين (الحركة الشعبية لتحرير السودان). ثمَّ تشكَّلت القيادة السياسية والعسكرية العليا للحركة. كما تشكَّلت لجنة سياسية مؤقتة من خمسة أعضاء يباشرون مهام التنسيق وعلاقات الحركة الخارجية. كان رئيس تلك اللجنة الخماسية (جوزيف أدوهو) وضمَّت عضويتها (مارتن ماجير) و(بنجامين كول) و(أكوت أتيم) و (صمويل قاي توت). بعد خمسة أشهر من تكوين اللجنة السياسية الخماسية، حدث أول صدام دموي بين جون قرنق وقادة التمرد الذين سبقوه إلى الغابة (أبناء النوير). وقُتل نتيجة ذلك الصراع الدامي (صمويل قاي توت) و(أكوت أتيم) و(بنجامين بول)، وهم أعضاء اللجنة السياسية الخماسية المؤقتة، أما العضوان الآخران وهما (الرئيس ونائبه) فقد سجنهما جون قرنق ثم قتلهما في 1993م و1994م. حيث مات (جوزيف أدوهو) في (كونغور) في نهاية درامية لتمرده الطويل. كما مات (مارتن ماجير) في غرب الإستوائية. وهكذا اتضح أن اللجنة السياسية المؤقتة هي مؤقتة بالفعل!. وخلت الأجواء للمتمرد جون قرنق ليفعل ما يشاء ويبسط سيطرة الدينكا، بعد أن قتل السياسيين والزعامات من أبناء القبائل الجنوبية الأخرى من المؤسسين للتمرد الجنوبي المسلح الثاني الذي بدأ في مايو 1983م. فبسط جون قرنق هيمنة الدينكا على قيادة الحركة الشعبية. وفي الفترة من 1984 - 1991م ضمّت القيادة السياسية والعسكرية لحركة قرنق (18) عضواً. حيث راعى جون قرنق الذي قام بتشكيل القيادة السياسية والعسكرية التوازن القبلي والجهوي. حيث ضمَّت تلك القيادة السياسية والعسكرية (9) من الدينكا بمن فيهم جون قرنق و(4) من (النوير) و(2) من (الباريا) وواحد من كلّ من (المورلي) و(الشلك) و(النوبة). وقد انضمّ بعض هؤلاء للحركة الشعبية في أواخر الثمانينات، مثل لام أكول ويوسف كوّة مكّي. لكن تلك القيادة (التاريخية) للحركة الشعبية ومجلس قيادتها السياسي والعسكري (18عضواً)، تناقص إلى سبعة أعضاء فقط بمن فيهم جون قرنق، منهم خمسة من أبناء الدينكا. حيث في عام 1985م سجن جون قرنق (كواج ماكوي) وظل سجيناً حتى هرب عام 1991م إلى نيروبي. وفي 1987م مات (ناشيفال نشو لوك) في معارك (كبويتا) مع الجيش السوداني. وفي نفس العام سجن جون قرنق (كاربينو كوانين) حتى هرب عام 1992م إلى كمبالا ثم نيروبي. وفي 1998م سجن جون قرنق (أروك طون). وفي 1991م انشق كلّ من رياك مشار ولام أكول وقوردون كونق، وكوّنوا فصيلاً جديداً أسموه (الناصر). وفي عام 1992م انشق (وليم نون)، ومات (مارتن مانيال)، ولحق به (قلاريو مودي) عام 1993م. لقد كشفت الصراعات السياسية والقبلية الدامية داخل الحركة الشعبية، أن جوهر الحركة الشعبية وواقع الحركة الشعبية منذ نشأتها، ليس غير سلسلة غير متناهية من الغدر والخيانة والدماء والإغتيالات. إذا كانت الحركة الشعبية اعتادت أن ترتكب ذلك الغدر والخيانة والدماء في العلاقات الجنوبية - جنوبية، فكيف ستفعل في العلاقات الجنوبية - شمالية؟.