ليس هناك بأس لو تواضعت قيادات الدولة التي بيدها مقاليد الأمور وبيدها السلطة والقرار، وجلست للتحدث بصراحة، وتقيِّم بصبر وأناة ومراجعة أسباب التردي المريع في الأداء التنفيذي في الوزارات والمؤسسات الرسمية وجهاز الدولة، وتفاقم الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية في البلاد، والحالة التي أصابت الوجدان الوطني من اهتراء وشعور بالكراهية ونفور وسخط وسأم إلى درجة حمل السلاح وسفك الدماء وارتكاب كل كبيرة في حق الوطن. ولدينا الآن بلا أدنى تغافل، أزمة شاملة، ليست على صعيد الحكم وأهله، بل تمددت في كل النسيج والبناء الوطني ومكوناته السياسية، وتجري في عروق المجتمع، وتحتاج لحلول عاجلة وتفكير أعمق يسبر الغور ويصل اللباب، ويخرجنا من حالة التيه والتأزم التي نعيشها والاحتقانات التي تكاد تنفجر. وأصبحنا نخشى ونخاف على وطن أكثر من أي شيء آخر. لقد استسهل الكثير منا انتهاك كل حرماته، والتفريط فيه وفي كل جزء منه، والتعاون مع كل عدو للنيل من كرامته ووجوده، والتكالب والتداعي كالأكلة على القصعة لالتهام لحمه وشرب دمه ونهب ثرواته. وفي ترافق مع ذلك، لم يستطع الكثير من المسؤولين ومن اختيروا لخدمة البلاد والعباد، الارتفاع إلى مستوى هامة الوطن، والعمل بإخلاص من أجله، فتردى كل شيء إلا قليلاً، وتهاوت صروح البناء والنهضة، وفشلت الخطط والبرامج في مداواة الجراح وسد الذرائع وبعث الأمل وشفاء العلل. فلينظر المرء إلى الأداء التنفيذي في البلاد والعجز عن استنباط الحلول والمعالجات، وقدرات بعض وزراء الموازنات الجهوية والسياسية التي تصل في كثير منها للمستوى الصفري، وتمتلئ المواقع بالكثير من الوزراء الأسماء، لكن لا تجد شيئاً يزيد «مدماكاً» في أسوار البناء والنهوض مما نحن فيه. لقد انتهجت الدولة نهجاً غير ذي جدوى باعتمادها المحاصصات الجهوية والقبلية والمعايرة الحزبية في التعيينات والاستوزار، وتركت الكفاءة والخبرة والتجربة والقدرة الخلاَّقة والابتكار والإبداع، فأعلت من شأن من لا حظ لهم وحطت من أقدار أصحاب الشأن والعلماء والخبراء ممن كانوا سيشكلون إضافات حقيقية للعمل العام وتحقيق الإنجازات ولمشروع النهضة. لقد ترسَّخت قناعة كبيرة لدى كثير من الحادبين على مصلحة هذه البلاد، بأنه ما من نهج له قوة تدميرية مثل اعتماد الولاء الأعمى، وأولي الحظوة السياسية ووزراء الصدفة والموازنات بديلاً لأهل النظر والفكر والقدرات والعلم والكياسة السياسية والملهمين في قيادة الناس. ولكم هو أمر محزن للغاية لكل مراقب ولصيق بالحركة اليومية للأداء الحكومي، وهو يرى ما وصلنا إليه من تدنٍ مريع في الإنجاز وامتهان الوظيفة العامة وولايتها، فلو لم يجترح أهل الحكم جريرة لا واقي منها ولا عاصم، إلا معايير التعيينات وسوء تقديراتها، لكفى ذاك مذمة سياسية عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة!! فنحن اليوم نقف تائهين على مفترق طرق كثيرة التعرجات، تحاصرنا أزمات من كل جانب ومن كل اتجاه، ونستطيع أن نتجاوزها ونعبر فوقها، إذا أعدنا النظر في الحال التي نحن فيها، وفطمنا أنفسنا من أمراض الجهويات والعصبيات السياسية والمناطقية والقبلية، ونستطيع أن نجابه كل تحدٍ أمامنا إذا فكرنا في المآل الذي يخلِّفه هذا الواقع المرير الذي نعيشه دون أن نبصر في آخر النفق بصيص ضوء يهدينا لمخرج ويأخذنا لسبل الرشاد.