بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يهزم مازيمبي بثلاثية نظيفة ويصعد لنهائي الأبطال    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأوضاع فى السودان قبل يونيو 1989م – أسباب ودواعي قيام الثورة

مذكرة الجيش 89 كانت بداية النهاية للعجز والفشل الحزبي في إدارة البلاد الاتهامات المتبادلة بين المؤسسات العسكرية والقيادات التنفيذية والسياسية هيأت الأجواء لقيام الثورة نائب رئيس وزراء حكومة الصادق قدم دعوة مفتوحة وإعلان رسمي لإنقاذ البلاد رصد (smc) منذ أن نال السودان استقلاله فى العام 1956م دخل فى تجارب وطنية متعددة فى الحكم ، جرى التناوب فيها بين النظم العسكرية والنظم الديمقراطية الحزبية . وإذا كانت النظم العسكرية هى الأطول عمراً مقارنة بفترات حكم الأحزاب ، إلا أن هذا التقلب يشير إلى درجة كبيرة من عدم الاستقرار السياسى فى الحياة السودانية . فالاستقرار السياسى يشكل عاملاً حاسماً فى استقرار السياسات ويجعلها تسير على وتيرة منتظمة وأكثر انسجاماً ، فضلاً عن مساعدته فى تأسيس تقاليد و ذاكرة تراكمية لجهود المؤسسات تعين الأجيال المتعاقبة على التواصل معها والبناء عليها وتطويرها . إن إنجازات السودان في مجالات التنمية والبنى التحتية معظمه منسوب إلى الحقب التى حكمتها النظم العسكرية بحكم الاستقرار النسبى الذى حققته . إذ بلغت جملة السنوات التى حكمتها الأنظمة العسكرية منذ الاستقلال وحتى ثمانية وثلاثون سنة مقارنة بإحدى عشر سنة هى جملة السنوات التى حكمتها النظم الحزبية فى ذات الفترة . وبرغم أن البعض يبرر فشل التجارب الحزبية المتعاقبة، بهشاشة التنظيمات السياسية، وتفشى الأمية، وغياب الوعى بالممارسة الديمقراطية الراشدة، وعدم منح التجارب الحزبية الفترة الكافية للرسوخ والتطور ، إلا أن النتيجة النهائية تظل هى تكرار فشل التجارب الحزبية فى السودان ، ويرى البعض فى هذا الفشل المتكرر، سبباً قوياً وموضوعياً يدفع المؤسسة العسكرية إلى تولي الأمر عبر الانقلابات العسكرية. ومهما يكن صواب هذا الرأى أو ذاك ، فلنتخذ التجربة الحزبية الأخيرة نموذجاً (86 19– 1989م). مظاهر الفشل فى التجربة الحزبية الأخيرة فى السودان (86 19– 1989م) ثمة قضايا قومية ظلت تشكِل محاور الإصلاحات فى برامج الحكومات المتعاقبة فى السودان، وهذه القضايا هى محل اهتمام المواطن السودانى ومعياره الموضوعى فى تحديد موقفه المؤيد أو المناهض لأي نظام يتولى زمام الحكم . تتمثل هذه القضايا فى الأمن ، السلام، الاستقرار و التنمية ، وقد فشلت كل الأنظمة الحزبية في هذه القضايا. التردى الأمنى المعلوم تاريخياً أن قضية جنوب السودان هى القضية الأمنية الأولى التى شغلت الحكومات المتعاقبة منذ العام 1955م حيث ظهرت حركتا الأنانيا الأولى والثانية . وعقب التوقيع على اتفاقية أديس أبابا فى العام 1972م ، مر عقد من الزمان اتسم بالهدوء قبل أن يتجدد القتال مرة أخرى بظهور الحركة "الجيش الشعبى لتحرير السودان" فى العام 1983 م نتيجة لعدم التزام الحكومة المركزية القائمة وقتئذٍ ببنود اتفاقية أديس أبابا للسلام . وخلال فترة الحكم الحزبي الأخيرة سيطرت الحركة "الجيش الشعبى لتحرير السودان"على معظم مساحة جنوب السودان ، وصارت المدن والمواقع العسكرية تسقط الواحدة تلو الأخرى ، ونجحت الحركة فى تحقيق أكبرعملية اختراق استخباراتى داخلى، وظَفته لمصلحتها فى كسب تأييد ومساندة اليسار الحزبى لصالحها . وفى مقابل ذلك ، أظهرت الحكومة الحزبية عجزاً واضحاً، فى تجهيز القوات المسلحة بضرورات الحرب ، كما عجزت عن تنظيم التعبئة الجماهيرية، لرفع الروح المعنوية للقوات المسلحة فى مناطق العمليات والخطوط الأمامية، ولتقوية الجبهة الداخلية . وصارت القوى السياسية القابضة على الزمام تستجيب لشروط وضغوط الحركة فى طاولة التفاوض . ونتيجة لذلك أبرمت اتفاقية حزبية لا حكومية فرطت فى الهوية الثقافية لغالبية أهل السودان لصالح خيار الدولة ذات التوجه العلمانى، ودون أن يكون ذلك فى إطار أى مشروع للتسوية الشاملة والعادلة والدائمة. ومع هذا التردى الأمنى لجنوب السودان ، برزت اختلالات أمنية أخرى فى الشمال . ففى دارفور برزت ظاهرة النهب المسلح وتفاقمت لدرجة أن عصابات النهب المسلح كادت أن تصبح قوى موازية لقوة الدولة ، وامتدت ظواهر مشابهة ( كالسطو المسلح) إلى العاصمة نفسها الأمر الذى أدى إلى ارتفاع معدلات الجريمة واختلال النظام العام وانتشرت ظاهرة الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات. ومما زاد الأمر سوءا ، احتدام الصراع الحزبى الطائفى على السلطة مما قاد إلى تعدد الحكومات الإئتلافية وتأرجح مواقع القوى البرلمانية بين حكومة ومعارضة خلال فترات قصيرة مما أحدث اختلالاً ملحوظاً فى الأداء التنفيذى والتشريعى فى وقت أحوج ما تكون فيه البلاد إلى الاستقرار السياسى لمواجهة المهددات الأمنية الماثلة والأزمات الاقتصادية المستفحلة . انعكس هذا التردى إجمالاً على الجبهة الداخلية والخارجية اللتين فقدتا الحصانة الذاتية فى مواجهة المخاطر والمهددات المحدقة ، وبذلك صار الأمن القومى للسودان منكشفاً أمام المخططات والأطماع الإقليمية والدولية . مذكرة الجيش (1989م) : و عندما بلغ السيل زباه من التدهور والتردى وأصبح الأمن القومى للبلاد فى خطر، تحركت المؤسسة العسكرية ورفعت مذكرتها الشهيرة إلى السلطتين التنفيذية والسيادية فى 22/فبراير/1989م. حملت المذكرة اتهامات كبرى تدور حول العجز والفشل الذى لازم ذلك العهد الحزبى مما أثَر سلباً على أداء القوات المسلحة فى مواجهة المخاطر المحدقة ، إذ تضاءل الدعم الخارجى نتيجة لمحورية السياسة الخارجية ، وضعف الدعم المادى والمعنوى للقوات المسلحة ، بالإضافة إلى ضعف وهشاشة الجبهة الداخلية . تقول مذكرة القوات المسلحة : إن قدراتنا القتالية قد تناقصت بنسبة 50% مما كانت عليه فى العام 1983م وذلك للاستنزاف المستمر فى المعدات المختلفة والأسلحة ومؤن القتال، مع غياب كامل للاستعواض المنتظم ، وأخيراً توقفت كل الدول المانحة عن تقديم أقل احتياجاتنا الحيوية . أمَا المؤشرات لذلك فهى واضحة ، فإننا قد فقدنا مساحات أرضية، ليس بسبب قصور مقاتلي جيشنا العامل، ولكن بسبب تدنى إمكانياتنا القتالية، وقصور حركة إمدادنا المنتظم. من الجانب الآخر نجد أنَ جيش الحركة يحظى بدعم الشرق والغرب وتتوفر له كل إمكانيات ومتطلبات القوات النظامية . إن التاريخ لن يرحمنا نحن القادة، ممارسة الفرجة على قمة قواتنا المسلحة العاملة، وهى تفقد معارك تفرض عليها، ولا تجد الحد الأدنى من المتطلبات الدفاعية، ولا يتوفر لها القدر المعقول من السند المعنوى من الجبهة الداخلية، ولانحرك ساكناً ... إننا نقف اليوم أمام مسئولية تاريخية تجاه وحدة وتماسك وطننا العزيز، وأما مسئولياتنا المقدسة نحو ضبَاطنا وجنودنا، الذين يقدمون أنفسهم ودماءهم الزكية، فى تضحية وفداء مقدس ... دون خوض عميق فيما يحدث فى الجبهة الداخلية، فجميعنا يدرك الحجم والأبعاد والمؤثرات، ولكننا نركِز على جانبين ، أولهما التأثير المباشر على الأمن القومى السودانى ، وثانيهما التأثير على إدارة العمليات العسكرية ، وعلى تماسك ووحدة القوات المسلحة . وتشير المذكرة الى بعض مهددات الامن القومي السوداني التي وصفتها بالعديد ولكنها تشير الى ما اسمته اكثر خطورة كما تشير الى ما لحق بالقوات المسلحة من تدهور. وأبانت المذكرة إن إدارة الصراع المسلح لا تنفصل أبداً عن إدارة السياسة المتوازنة للدولة، عليه يجب أن تهدف الدولة إلى كسر طوق الحصار الاقتصادى والعسكرى المفروض علينا من الشرق والغرب، وذلك بانتهاج سياسات متوازنة تمكننا من كسب احترام العالم بمواقفنا المرشدة، ويمكننا من استقطاب العون الاقتصادى والعون العسكرى الذى نحتاج إليه اليوم، وعليه مع تأكيد الولاء لله وللأرض وللشعب ، نرفع لكم هذه المذكرة النابعة من إجماع القوات المسلحة، لاتخاذ القرارات اللازمة فى ظرف أسبوع من اليوم ( يوم تقديم المذكرة ) ." و تضمنت هذه المذكرة التاريخية حقائق خطيرة، لا يمكن لوطنى غيور فى موقع المسئولية أن يصمت عليها دونما تنبيه للقيادة السياسية والتنفيذية . وواضح من قائمة المذكرة أنها انطوت على دلالات ومعانى إنذارية أكثر منها تنبيهية. وقد جاء رد فعل القيادة التنفيذية على المذكرة، على لسان السيد الصادق المهدى، رئيس الوزراء وقتها ، حيث اعترف بما ورد فى المذكرة . وعلَق عليها بما يشير إلى أن المناخ أصبح مواتياً ومهيئا للتغيير والمتمثلة في إن الجبهة الداخلية غير موحدة مما يؤثر سلباً على مهام الدفاع و إن الحرب الحالية تدور فى غير مشاركة كاملة من الشعور العام فى البلاد بجانب إن القوات المسلحة تنقصها مقومات الإصلاح ، لا سيما فى السلاح الجوى والدفاع الجوى والبحرية و إن التمرد فى الجنوب يحظى بظروف تأييد غير عادية من مصادر مختلفة. ما دمنا نتحدث بصراحة، فهناك قضايا عسكرية فنية، أى أن لكم ملاحظات حولها تتعلق بأداء التوجيه المعنوى، والأداء الاستخبارى، والجهد الشعبى لدعم القتال، والاستغلال الأمثل للقدرات المتاحة. ينبغى أن نجرى محاسبات موضوعية على الأخطاء السياسية العسكرية لتحقيق الدفاع والأمن للوطن. هذه نهاية غير موفقة لأنها تشبه الإنذار وتفتح باب ملابسات. فالذين يرون إحداث انقلاب عسكرى، سيجدون منها مدخلاً ، والذين يخشون من وقوع إنقلاب عسكرى، سيجدونها مدخلاً مضاداً توالت ردود فعل القيادة التنفيذية على المذكرة ، إذ دعا رئيس الوزراء ، السيد الصادق المهدى ، أمام الجمعية التأسيسية (البرلمان) إلى استنفار كل القوى السياسية لتماسك الجبهة الداخلية . وطالب سيادته بالحصول على تفويض خلال أسبوع واحد من كافة النقابات والفعاليات السياسية والعسكرية، حتى يتمكن من التحرك لحسم الأمر ، وهدد سيادته بتقديم استقالته، فى حالة عدم حصوله على هذا التفويض !! وكان رد فعل القوات المسلحة على رد رئيس الوزراء على مذكرتها, أن أصدرت ما يفيد أن " القوات المسلحة لا تفوض مسئولياتها الدستورية لأية سلطة سياسية .. وأنها تؤكد اصرارها على ضرورة تنفيذ كل ما جاء فى مذكرتها ، وترفض التلميح بوجود تقصير أو عدم انضباط عسكرى . وتؤكد مرة أخرى أن الدعم العسكرى الفورى والمستمر هو الحل لإعادة التوازن الاستراتيجى العسكرى مما سبق يمكن أن نخلص إلى عدة مؤشرات فالمذكرة أدخلت البلاد فى أزمة من نوع جديد ، أزمة تبودلت فيها الاتهامات بين القيادة العسكرية والقيادة التنفيذية والسياسية، فى مشهد اقرب ما يكون إلى الانقلاب العسكرى غير الخشن . ففى الوقت الذى ترى فيه القيادة العسكرية إن تدخلها مشروعاً بمقتضى مسئولياتها الدستورية ، كانت القيادة السياسية تعده نوعاً من الإخلال بالانضباط العسكرى . فالجيش يعتبر التدهور الأمنى قصوراً سياسياً، فى الوقت الذى كانت القيادة السياسية تعده تقصيراً فنياً من الجيش وبذلك تهيأ المناخ العام للتغيير ، أى تغيير، ومن أيما جهة كانت ، مهما كان توجهها . فالتغيير أصبح واقعاً لا محالة . الاختلالات الأمنية فى الجبهة الداخلية : فى 13/يونيو/1988م خاطب السيد عبد الماجد حامد خليل ، وزير الدفاع آنذاك، الجمعية التأسيسية (البرلمان)، وكان محور حديثه الأوضاع الأمنية الداخلية ، حيث قال: "لعل أبرز المهددات للأمن الداخلى هى الضائقة الاقتصادية التى نعايشها، وما ينتج عنها من ظروف اجتماعية، دفعت إلى إتِباع السلوك المنحرف لإشباع الحاجات الانسانية, ويتمثل هذا السلوك فى الجرائم ضد الأموال، وجرائم سوء استخدام السلطة ، والإضرار بالاقتصاد القومى، فى شكل عمليات التهريب والإتجار غير المشروع ، والجرائم ضد الانسان، والتخزين للسلع الضرورية . لقد ارتفعت معدلات الجريمة فى الآونة الأخيرة ارتفاعاً ملحوظاً فبلغت 11.5% فى الفترة من يناير إلى مايو 1988م مقارنة بالعام الماضى ، كما ارتفعت نسبة بلاغات النهب والسرقة وامتد التهريب إلى السلع الاستراتيجية مما خلق الندرة وأدى إلى تفشى السوق السوداء. " ثم أشار وزير الدفاع إلى حادثتين خطيرتين من الجرائم الإرهابية وقعتا فى الخرطوم إبان هذا العهد الحزبى ، وفى ذلك يقول السيد عبد الماجد حامد خليل : " إن حادثتي اغتيال مهدى الحكيم فى الهيلتون ، وتفجير وإطلاق النار فى فندق الأكروبول والنادى البريطانى، تحملان فى طياتهما تعقيدات الإرهاب الدولى ، وتنقلان بلادنا إلى هذا النوع من الجرائم السياسية الدولية. "فهذه كلها نعدها شهادة من وزير الدفاع خلال العهد الحزبى الأخير، وهى تعطى صورة كاملة لما آلت
إليه الأوضاع الأمنية فى ذلك الوقت. التردي الاقتصادي: التردى الاقتصادى ورد ضمن مهددات الأمن القومى التى حددتها مذكرة القوات المسلحة، وأكد ذلك السيد المرحوم د. عمر نور الدائم الذى كان وزيراً للمالية فى ذلك العهد. ففى خطاب الميزانية للعام 1988/1989م الذى قدمه الراحل د. عمر نور الدائم أمام الجمعية التأسيسية، بتاريخ 15/يونيو/1988م ، عدَد سيادته ما أسماه "وجوه القبح" الموروثة والمكتسبة فى الاقتصاد ، حيث قال" أول وجوه القبح ،هو أن مجتمعنا صار يستهلك أكثر مما ينتج . وثانى وجوه القبح، هو أن التنمية فى بلادنا( للسبب الأول) صارت تعتمد اعتماداً كبيراً على المعونات الأجنبية. وثالثها، أنَ الاقتصاد الوطنى صار مثقلاً بدين كبير تراكم على مر السنوات، ولم يستغل استغلالاً استثمارياً فعَالاً .ورابعها، هو ذلك الترهل الذى أصاب القطاع العام، فجعل مؤسساته التى كانت رابحة خاسرة . وخامسها، هو أن القطاع الخاص الذى لعب دوراً تاريخياً فى التنمية الاقتصادية قد صودر وأصم وكبِل ، كما لحقت بكثير من أنشطته ممارسات السوق السوداء، التى برزت نتيجة للسياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة . وسادسها، هو أن التركيبة المحصولية والنمط الاستهلاكى فى بلادنا جعلنا، ونحن بلد زراعى المقومات، نعتمد على غيرنا فى الحصول على بعض أهم مكونات غذاءنا، مثل القمح واللبن والسكر . وسابعها، هو أن ما ورثناه من حرب فى جنوب البلاد، بدأت بسبب أخطاء ارتكبها النظام المايوى، واستمرت بسبب عوامل أجنبية احتضنت الحرب، ثم سخرتها لأهدافها القومية. هذه الحرب اللعينة أهدرت جزءاً هاماً من موارد البلاد، وشردت جزءاً هاماً من سكانه، وعطلت عطاءهم الاقتصادى . وثامنها، اعتمادنا على استيراد الوقود بصورة مستنزفة لاقتصادنا الوطنى، بينما البترول فى أرضنا موجود بكميات على أقل تقدير تكفى لاستهلاكنا القومى . وتاسعها، هو عدم التوازن فى فرص التنمية وتوزيع الخدمات، مما أورث بلادنا مفارقات تنموية بين أجزائها المختلفة ." تلك هى وجوه القبح فى الاقتصاد السودانى كما حددها وزير المالية خلال العهد الحزبى الأخير ، وهى تتضمن ما يعرف اصطلاحاً ب " الثالوث المقيت "، (تدنى الإنتاج ، زيادة الصرف دون موارد حقيقية ،والاعتماد على الخارج فى التنمية والغذاء) . وليس من كارثة أكبر من هذا . أما فى خطاب الموازنة للعام 89/1990 م، فقد عدَد وزير المالية مظاهر التردى بما يلى : " الميزانية التقديرية الجديدة قد ورثت من ميزانية العام المالى الحالى، وما سبقها من ميزانيات عديدة، سمتي : القصور الهيكلى، والتطورات الاستثنائية لكل ذلك ، يمكن القول أن التردى الاقتصادى قد وصل إلى مستوى الأزمة، نتيجة للاستجابة الاستسلامية لمستجدات العوامل والتطورات الاقتصادية الإقليمية والدولية ، ودونما إرادة سياسية تفعِل دور الميزات النسبية لاقتصادنا فى إحداث التغييرات الهيكلية المطلوبة ، ودون خطة استراتيجية هادية ، مع الاستبعاد الكامل للبعد الروحى المعنوى فى دفع التغيير الاقتصادى بالاعتماد على النفس ، وحشد وحسن توظيف الطاقات الذاتية . وكان من نتيجة ذلك ، الاعتماد على القروض والمعونات بشروطها القاسية المعلومة، وما يترتب عليها من تراكمات فى المديونية الخارجية، دون إحداث أية آثار هيكلية إيجابية على الاقتصاد الكلى . وقد صاحب ذلك عجز كامل عن كسر أحادية التركيبة النقدية، بإدخال الاستثمار فى مجالات التعدين والنفط والصناعة . فتوقفت بذلك عجلة التنمية الاستراتيجية الضرورية لبناء البنى التحتية للنهضة الاقتصادية ، مثل الطاقة والرى والمواصلات والاتصالات . تلازم ذلك ايضاً مع جمود فى مجالات التنمية الاجتماعية، خاصة التعليم والصحة وغيرها . وفوق كل ذلك ،فقد الاقتصاد الوطنى هويته وميزته، وكبَلت قواه الفاعلة فى تحريك الاستثمار والإنتاج والتسويق وغيرها . أثر الأحزاب على تركيبة المجتمعات: يتميز المجتمع السودانى بخصائص وسمات، قائمة على قيم التواصل والتكافل والنصرة وغيرها . وقد تأثر المجتمع بدرجة كبيرة تاثراً سالباً بطبيعة نشوء وتركيبة الأحزاب السياسية . فهى ليست أحزاباً سياسية بالمعنى الحقيقي لمصطلح حزب سياسى ، ذلك أن الحزب السياسى فى الفقه السياسى المعاصر، تقوم فكرته على طرح برنامج واضح يخاطب قضايا الدولة والمجتمع، ورؤيته لمنهج التعامل بها ومعالجتها . أما الأحزاب السياسية السودانية، فتتمحور حول الأبعاد الطائفية القبلية، والتحيز الجهوى والعنصرى، بغرض السيطرة . وليس من مهدد على وحدة المجتمع اكثر من هذا التكوين التقليدى المتخلف . نشأت على هذه الأسس التقليدية الجهوية تنظيمات عديدة ، نذكر منها على سبيل التمثيل: مؤتمر البجة ، جبهة نهضة دارفور ، منظمة اللهيب الأحمر ، منظمة سونى ، الحزب القومى السودانى ، اتحاد جبال النوبة ، أحزاب الجنوب ، الأحزاب القومية العربية ... إلخ بالإضافة إلى الأحزاب الطائفية ذات الولاء المعروف . ونتيجة لكل ذلك ، بدأت بوادر الانقسامات حتى فى الحزب الواحد ، ثم تجاوزت الكيانات الحزبية، لتلحق بالمهن والوظائف . فظهرت عصبيات المهن ،وتكاثرت النقابات بدرجة أصبح واضحاً معها استحالة التناسق والتعاون المطلوب لتحريك دولاب العمل فى الدولة كان هذا التفكك المجتمعى أخطر على الدولة من سائر المهددات الأخرى، وأعمقها أثراً، وأشرسها فتكاً بعضد الدولة، لكونه القاعدة التى ترتكز عليها جميع مقومات الدولة الأخرى وأقواها . لذلك كان لابد من التغيير لحماية المجتمع من خطر التفكك، وجمع هويته القومية ذات الطابع السودانى المميز، وثقافته الموحدة لقبلته وانتمائه الروحى . تردى الأداء التشريعى والتنفيذى : البرلمان فى أى بلد من بلاد الدنيا، يعد من أهم الأجهزة الدستورية، وله مهام تشريعية ورقابية على الجهاز التنفيذى ، فضلاً عن كونه يمثل الشعب بمختلف شرائحه وفئاته وتشكيلاته، ويحمل همومه ويحمى مصالحه . وعندما يتراخى دور البرلمان، يكون ذلك على حساب الشعب، ويزيد من تغول السلطة التنفيذية . وفى التجربة الحزبية الأخيرة فى السودان( 1986/1989م) (الجمعية التأسيسية)، وبسبب عدم المسئولية فى الاهتمام بشأن المجتمع، كثرت حالات غياب الأعضاء عن الجلسات، مما أدى فى كثير من الأحيان إلى فض الجمعية التأسيسية لعدم اكتمال النصاب. وتكررت هذه الحالات حتى صارت تمثل ظاهرة ،مما شل قدرة الجمعية التأسيسية على القيام بواجباتها الدستورية ، وقلل من قدرها وهيبتها لدى القواعد الشعبية. ونتيجة لذلك تكونت لجنة برلمانية خاصة للتحقيق فى ظاهرة غياب نواب الشعب عن حضور جلسات الجمعية التأسيسية ، وذلك بموجب القرار رقم (10) بتاريخ 14/12/1988م، وكانت اللجنة برئاسة الأستاذ حسن عبد القادر ، نائب رئيس الجمعية التأسيسية ، وعضوية أمناء الهيئات البرلمانية للأحزاب الممثلة فى الجمعية. أعدت اللجنة تقريراً حول الظاهرة . وبدأ التقرير بمقدمة تضمنت تحليلاً عاماً للآثار المترتبة على ظاهرة تغيب النواب. أزمة الممارسة الحزبية واحتضار تجربة الديمقراطية : تضافرت مظاهر التردى الاقتصادى والأمنى والاجتماعى والسياسى السابقة جميعها، لتفاقم الأزمة الحقيقية التى مر بها النظام الحزبى الأخير فى السودان ، وعندما وصلت الأزمة الشاملة حداً تجاوز مستوى التصورات ، اعترف بها الوطنيون من ذوى المسئولية وأعلنوا بشجاعة فشلهم فى تجاوزها ، وهذا جانب مهم من مقتضيات المسئولية . ففى غرة مارس 1989م قدم السيد الشريف زين العابدين الهندى ، الأمين العام للحزب الاتِحادى الديمقراطى ونائب رئيس الوزراء فى ذلك العهد ، قدم خطاباً تاريخياً أمام الجمعية التأسيسية ،اعترف فيه اعترافاً شجاعاً بالانهيار الشامل للأوضاع فى السودان ، حيث قال:" وفى اللحظة التى كان يلقى فيها رئيس الوزراء خطاب الرئاسة هنا، كانت توريت تتساقط وتُخلى وتُترك نهباً بما فيها من عُدة وما فيها من عتاد .. بلادنا الآن ، وإن كان هذا ليس مكانه ، نصفها ليس لديكم ، وكل مركز من مراكز الضفة الشرقية محاط، ويحدق به الخطر ، يتحدث المتحدثون هنا عن الغلاء وعن التضخم وعن الجوع، وكلنا نعانى منها ولا داعى لذكرها .. لكن هناك شئ واحد علينا أن نعترف به، وهو أننا فى أزمة وأزمة واضحة المعالم ومرئية .. نحن الآن نعانى من أزمة بلد كامل ينتقص (ثم مضى يتساءل) .. وهل هذه مذكرة الجيش الأولى ؟ هذه ليست مذكرة الجيش الأولى على الإطلاق . الفساد موجود، ونقول غير موجود ، المحسوبية موجودة، ونقول غير موجودة، هناك تأخر فى الاقتصاد، ونقول لا يوجد ، هناك ضيق فى المعيشة، ونقول لا يوجد ، هناك ديون، ونقول لا توجد ، وهناك محدودية، ونقول لا توجد . إن الواقع الديمقراطى يتضعضع وينزل إلى الحضيض عندما لا يستطيع أهله أن يكونوا قوَامين عليه، لأنهم لا يستطيعون حمل الأمانة ... لم يأت بنا الشعب لهذا ، نحن منذ ثلاث سنوات لم نؤدِ واجباً ، جئنا هنا لوضع الدستور الدائم، الذى أصبح حلماً وأصبح نزاعاً ... لماذا لا نلتقى لنناقش، لنعرف ما هى المشكلة، لكى نشير بشجاعة أن الحكم فشل، لأسباب كذا وكذا. كيف نطلب من الآخرين ضمانات لكى يحافظوا على الديمقراطية، وهى عرجاء وكسيحة وعاجزة عن أداء واجبها .. تانى كان شاله كلب ما بيقولوا ليهو جر .. لأننا غير جديرين بالحكم الديمقراطى .. إجلسوا كمواطنين وإختلفوا على بينة .. على بينة.. وأنتم الآن تختلفون بغير طائل ، وتتعصبون فحسب ، ودخلت الحمية الحزبية فى الجمعية فأفسدتها . " ليس هناك الكثير مما يقال عن النظام الحزبى الأخير بعد هذه الشهادة التاريخية، من نائب رئيس الوزراء فى ذلك العهد، وهى بمثابة دعوة مفتوحة وإعلان رسمى أنَ البلاد فى حاجة إلى من ينقذها مما هى فيه من حيث التحليل ، يمكن أن نعزى الأزمة الشاملة التى عايشتها التجربة الديمقراطية (العرجاء والكسيحة كما قال السيد الهندى ) إلى طبيعة التركيبة الحزبية، التى يغلب ويسيطر عليها الطابع الطائفى التقليدى ،وهذا يتناقض مع القيم الديمقراطية والتعريف السياسى لمصطلح "الحزب السياسى". وهذا الطابع الطائفى التقليدى لبعض الأحزاب، هو الذى ورط الأحزاب الطائفية فى ممارسة الديكتاتورية المدنية، المستترة خلف الهياكل والإجراءات الديمقراطية، كسبيل للوصول إلى السلطة والمحافظة على النفوذ . وبذلك لا يمكن أن نسمى التجربة الموصوفة آنفاً بأنها تجربة ديمقراطية حقيقية، مقارنة بالمفهوم الأصيل للديمقراطية التى عرفها الفقه السياسى المعاصر ، وذلك لعدة عوامل موضوعية حيث أن الطائفية السياسية تتناقض مع الديمقراطية . لأن الأخيرة تقوم فى جوهرها على حرية الإرادة الشعبية، بينما تقوم الأولى على مصادرة هذه الإرادة لمصلحة الولاء الطائفى بجانب إن الصراع السياسى الذى إحتدم حول السلطة، إنما كان فى حقيقته صراعاً طائفياً على النفوذ ، وهو صراع استمد حدته من العصبية الطائفية، مما دفع البلاد إلى الأزمات السياسية المهددة للاستقرار السياسى، وحوَل اهتمام السلطة بعيداً عن التصدى لمهام التنمية والتحديث، وقعد بها عن واجبات الدفاع عن الوحدة والسيادة فضلا عن ان طبيعة التركيبة الطائفية للأحزاب وممارستها للديكتاتورية المدنية ،جميعها عوامل غذت ظاهرة الانقسامات الطائفية والقبلية والجهوية ،وهى انقسامات تهزم فكرة التكامل القومى للأمة . وبذلك تفتقر الأحزاب إلى الطبيعة القومية، التى يجب أن تقوم عليها ، فمثلاً الأحزاب الشمالية ليس لها وجود سياسي حقيقي فى جنوب البلاد ، فضلاً عن كونها بطبيعة تركيبتها، تميِز بين المواطنين على أصل الولاء الطائفى، مما يباعد بينها ومبدأ المساواة السياسية، الضرورى فى الممارسة الديمقراطية الصحيحة . هذا التردى الشامل للأوضاع فى السودان إبان العهد الحزبى الأخير، هو الذى ولَد المناخ السياسى والنفسى،الذى هيأ البلاد لترقب وإستقبال التغيير ، الذى يمكن أن ينقذ البلاد والعباد من الضياع والتلاشى .

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.