لم تعد الجريمة في السودان، ذلك الفعل البسيط الذي يرتكبه «زوار الليل» ونشالو السوق ومعتادو الاحتيال الذين يتحدثون الراندوك وبينهم من يعرف ب«حشارة» وهذا لقب يُطلق على نوع معين من المجرمين الذين يستخدمون مفكاً معدلاً لسرقة السيارات وبعض السرقات الليلية، وبمقدور الحشارة أن تفتح أي قفل بسهولة دون إحداث صوت، ولا يستخدمها إلا المهرة من اللصوص، كما لم يعد لمجرمي «الجكيك» موقعاً في مسارح الجريمة التي انطلقت في الفضاءات الواسعة، و«الجكيك» تُطلق على الكبار من المجرمين، وظيفته مراقبة المارة وتحديد الضحية وتصنيفه، ويستخدم في ذلك خبراته التراكمية في العمل الإجرامي، وعادة ما يكون متقاعداً، فيتاجر بخبراته التراكمية، ويملك النشال أو المحتال معلومات تفصيلية لما يحمل الضحية من غنائم، بل بمقدور «الجكاك» أن يحدد طريقة السرقة أو الاحتيال أو النصب عليه. بالمقابل نجد شرطة المباحث والتحقيقات الجنائية، تقوم على إرث تجاوز قرناً من الزمان، وتجاوز أفراده مثل هذا النوع من التقليديين، وسبقت فراستهم وذكاؤهم الحاد تلك الأساليب، فهم الآن يجابهون جرائم وتحديات ما أنزل الله بها من سلطان، ويسايرون تفاصيل شبكات خطرة تمارس نشاطات هدّامة وبوسائل متطورة من اتجار بالبشر وقرصنة للمعلومات وإرهاب وتعدٍ على ملكيات فكرية لآخرين بل تمتد الدوائر إلى حماية المستهلك والاتجار في الأسلحة واستخدام وسائل وتقانات حديثة في التزييف بإمكانها أن تمر حتى على ماكينات الفحص، كما هو الحال في البلاغ الأخير لمباحث شرق النيل، التي ضبطت عملات مزيفة بعلامة مائية أصلية، هي في الأساس عملات قديمة تم محوها وإعادة طباعتها من جديد، وتحول ذلك «المجكك» إلى أفندي يمتطي فارهة آخر موديل، ويتابط ملفاً يجوب به مصلحة الأراضي وبنك السودان، بل تمددت الجريمة إلى فساد، يقوده القادة من الساسة والتنفيذيين، والكثير الكثير مما ينتظر المباحث أن تتولى فيه عمليات الحصر والحسر والحد من خلال التحقيق الجنائي الذي أصبح في تطور مستمر مع تطور أساليب ارتكاب الجريمة في الوقت الحاضر. بقدر ما تفجعنا المحن والجرائم، تبادر إدارة المباحث ببث الطمأنينة وسط أهلنا، وتحطم أرقاماً قياسية في الكشف والضبط، وها هي تلتئم في هذا الصباح في أولى «خطوات التنظيم» لمؤتمر جامع يناقش التحديات. فعمليات البحث الجنائي أضحت علماً منهجياً يصير تميزاً عندما يصقل بالموهبة والخبرة، وهو مؤتمر للمراجعة ووضع الرؤية المستقبلية والنظر بعين فاحصة للتطور في الجريمة واكتشافها، بعيدًا عن الأساليب التقليدية، إذ أن الأسلوب الحديث في التحقيق يقتصر على جمع الأدلة والحقائق المادية. أفق قبل الأخير مصداقاً لما جاء في الأثر، تحدث للناس أقضية «أحكام» بقدر ما يحدثون من فجور. أفق أخير زوار الليل مع كاميرات المراقبة صاروا ضيوف النهار.