يوجد في دولة الجنوب مستشار للحكومة هو مستر وينتر وهو في حقيقة الأمر الحاكم الفعلي للجنوب من وراء ستار. وإن أمريكا وإسرائيل ودول السوق الأوربية المشتركة ظلت على صلة وثيقة بكل ما يجري في دولة الجنوب كأنها وصيَّة عليها ولكن رياحهم لم تأتِ بما تشتهيه سفنهم وثبت أن تقديراتهم وحساباتهم كانت خاطئة إذ أراد أولاد قرنق أن يظل مشروعهم العلماني المسمى مشروع السودان الجديد قائماً ليتسنى لهم بسط سيطرتهم ووصايتهم على الشمال والجنوب على حد سواء حتى بعد الانفصال ويؤازرهم ويساندهم «الخواجات» الذين كانوا وما برحوا يسعون لتفتيت السودان الشمالي وتمزيق عرى وحدته وتقسيمه لعدة دويلات. وسعوا فور قيام دولة الجنوب لشن حرب اقتصادية ضده وعملوا سراً لتغيير عملتهم ولكنهم فوجئوا بأن السودان هو الآخر قد غيَّر عملته بالتزامن مع ما فعلوه هم فأسقط في أيديهم وعملوا على شراء العملات الحرة من هنا وتحويلها بشتى السبل للجنوب لإحداث هزة اقتصادية وتضخّم ليس له مثيل، وفي إطار حربهم الاقتصادية الخبيثة وبتضافر عدة عوامل منها تهافت وتكالب وطمع الجشعين هنا ارتفع سعر الدولار ارتفاعاً جنونياً وبذات الجنون انفلتت الأسواق وارتفعت أسعار كل السلع وغيرها. ورفضت حكومة الجنوب بكل صلف أن تدفع ولا قرش واحد للسودان لقاء تكرير بترولها في مصافيه وتمريره عبر أنابيبه وكانوا يهدفون لإحداث عجز في الميزانية يؤدي بالتدريج لانهيار اقتصادي تتبعه انتفاضة شعبية وفوضى عارمة وانفلات أمني ومصير مجهول ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث رغم أن معاناة المواطنين قد بلغت حدها الأقصى وعُقدت جولات مفاوضات عديدة ومملة بين وفدي حكومتي السودان والجنوب بأديس أببا وما زالت بعض القضايا معلقة والتقى الرئيسان عدة مرات ووصلوا لبعض الاتفاقيات في بعض القضايا وفق مصفوفة تم الاتفاق عليها ولكن ظل الطرف الجنوبي ينكص عن عهوده وثبت أن الرئيس سلفا كير مغلوب على أمره وأن بعض الولاة المتطرفين في بعض الولايات الحدودية وأبناء قرنق وعددًا من «الخواجات» يرفضون بعض ما ورد من اتفاقيات في عدد من الملفات الأمنية ويرفضون فك الارتباط بين قطاع الشمال ودولة الجنوب وأن عدداً من الجنرالات المؤثرين في الجيش الشعبي لدولة الجنوب يرفضون رفضاً باتاً فك الارتباط بين الفرقتين التاسعة والعاشرة وبين القيادة العامة لجيش الحركة الشعبية بالجنوب ويتخذون قطاع الشمال أداة عكننة للسودان وزعزعة أمنه مع قيامه بدور تنسيقي بين تحالف أحزاب المعارضة في الداخل وبين الحركات الدارفورية الحاملة للسلاح إضافة للفرقتين التاسعة والعاشرة وتبعاً لذلك أنشئ تجمُّع كاودة وتم بعد ذلك قيام الجبهة الثورية وميثاق كمبالا هو من مخرجاتها. والغريب العجيب أن المتنفذين الفعليين في دولة الجنوب يرفضون تنفيذ الاتفاقيات الأمنية ويسعَون فقط لتصدير بترولهم عبر السودان وحسبوا أن الميزانية هنا ستنهار في هذا العام المالي إذا لم تُضف إليها عائدات نفط الجنوب لقاء تكريره وتمريره وأخذوا يبتزون ويرفعون سيوف العشر والطرور والتلويح بإعلانات كاذبة مثل قرارهم بتصدير البترول عن طريق ممبسا عبر أنابيب يقيمونها بكينيا وهم يدركون قبل غيرهم أن هذه أحلام وأوهام إذ أن خطوط الأنابيب هذه يستغرق إعدادها عدة سنوات وتستنزف أموالاً طائلة إضافة للمهدادت الأمنية وأعلنوا في تصريحات أخرى تخليهم عن تلك الفكرة واستبدالها بالسعي لتصدير خام بترولهم لإثيوبيا عن طريق الشاحنات والفناطيز وكلها أوهام تبدَّدت ولا سبيل لهم إلا الرضوخ وتصدير بترولهم عبر السودان أو إيقاف ضخه لأجل غير مسمى. ولا ينكر أحد أن الميزانية العامة للسودان قد تأثرت سلباً بحجب هذا المصدر للدخل عنها ولكنه استفاد من تجربة العام المالي السابق ولم يعوِّل كثيراً على هذا المصدر في ميزانية العام المالي الجاري مع السعي لتدارك الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه بإهمال الزراعة والصناعة إبان سنوات العز البترولي الأخيرة ولكن دولة الجنوب هي المتضرر الأكبر من إيقاف ضخ بترولها وبدأت المجاعة تضرب كثيراً من أجزائها وأعلن مؤخراً أن مؤتمراً للمانحين سيُعقد لإسعاف الوضع الاقتصادي في الجنوب قبل أن ينهار تماماً والمتوقع الا تعدو المساعدات في الوقت الراهن مدهم بالطعام والأغذية ويخشى البعض أن يكون بعضها مسرطناً. وإذا بلغت الأمور طرف الهاوية بين دولتي الشمال والجنوب وأدت لحرب لا قدر الله فإنها ستكون هذه المرة حرباً استنزافية مفتوحة يدفع ثمنها الشعبان هنا وهناك وأن تجار السلاح من مصلحتهم أن تنطلق مثل هذه الحرب ولعل القوى الأجنبية المعادية للسودان تدرك أن كفته العسكرية ستكون هي الراجحة ولذلك فإنهم أمام أمرين إما أن يسعوا لإيقاف أي مواجهات عسكرية تؤدي لحرب مفتوحة وإما أن يقيموا جسراً جوياً ويديروا هم المعركة من وراء ستار وتلك مصيبة للطرفين إذ أنهم لن يدفعوا طلقة واحدة للجنوب دون رصد سعرها لخصمه من قيمة مخزون النفط الجنوبي أي أن الجنوبيين ستتراكم عليهم ديون طائلة.!! وإن العقلاء من الجنوبيين يدركون أن من مصلحة دولة الجنوب أن تكون علاقتها طيبة مع جمهورية السودان بإقامة جوار آمن يتبعه تعاون وتبادل للمنافع بينهما مع احترام كل دولة لخصوصية الدولة الأخرى وعلى دولة الجنوب أن تمد «أرجلها قدر لحافها» وأن تترك مشروعها التوسعي المسمى «السودان الجديد» فهي ليست وصية على الشمال وبنفس القدر فإن السودان ليس وصياً عليها وأن بعض دول الجوار الإفريقي الملاصقة لدولة الجنوب تريد أن تبتزها وتستنزف مواردها المالية بتصدير الخمور والمفاسد والإيدز إليها. وإن مصلحة الجنوب في إقامة جوار آمن مع السودان دون أن يكون مطية للقوى الاستعمارية أو المحلية المعادية للسودان وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن قطاع الشمال هو سبب «العكننة» بين الدولتين وأن الجوع والمسغبة والمجاعة التي بدأت تضرب أطنابها في الجنوب مردها إلى تصرفات هذا القطاع أو على وجه الدقة عدد محدود من هذا القطاع من المتطلعين لكراسي السلطة والجاه والصولجان وفي سبيل هذه الغايات الدنيئة والأهداف التافهة فإنهم يتخذون بعض سكان الأطراف في ولاية النيل الأزرق وبعض أجزاء جنوب كردفان محرقة بشرية ولا يهمهم حتى إذا قُتل أولئك السكان الآمنون عن آخرهم وهم بالنسبة لهم مجرد أداة ضغط ليجلس معهم النظام الحاكم ويقاسمهم السلطة وبالطبع أن لسكان تلك المناطق حقوقاً مشروعة لا ينكرها أحد وليكن الحوار والتفاوض مع أهل القضية الأصليين وليس مع المتاجرين بها والمستغلين لها وإن القلة الضئيلة العدد المشار إليها هي التي تشعل نيران الفتن في الشمال وهي سبب المجاعة في الجنوب وعندما أقول قطاع الشمال فإن هذا لا يعني بالضرورة كل الذين كانوا منتمين لهذا القطاع قبل انفصال الجنوب لأن الكثيرين منهم قد لاذوا بالصمت ومن حقهم أن يقيموا لأنفسهم تنظيماً إذا التزموا بالقانون والدستور ورفضوا وأدانوا حمل السلاح والتزموا بالعمل السياسي السلمي ومن ثم يقومون بكل الإجراءات التي يتطلبها التسجيل ومن حقهم بعد ذلك اتخاذ الموقف الذي يرونه مناسباً بالمعارضة السلمية من الداخل أو بالتفاوض مع الحزب الحاكم كما فعلت بعض الأحزاب المسجَّلة والمعترف بها عند مسجل التنظيمات ولا تثريب على هؤلاء إذا لم يخربوا أو يحملوا السلاح ولكن القلة الضئيلة التي تتحدث باسمهم كذباً وزوراً هي سبب الأذى.