ومازلنا عن اندونيسيا نحكي.. فواقع البلد الإسلامي بمساجده وطرقه قد جعل البلاد تصطبغ بصبغة إسلامية خالصة.. المساجد تزدان منائرها في الأسواق والمجمعات التجارية والوزارات وأحدهم يقول لي. إن هناك شرطًا بوجود مسجد حيال أي بناية تنشأ أو معمار مقام.. ولعل هنا باندونيسيا مسجد الاستقلال ذا التحفة المعمارية والمساحة الضخمة واكاد اجزم أنه المسجد الأكبر مساحة في العالم بعد الحرم نظرًا لما يحشد داخله من مصلين وما يكتنف جنباته من هدير المكبرين والمصلين على النبي «محمد» صلى الله عليه وسلم.. ولعل ثمة ملاحظة.. أن التسامح الديني في اندونيسيا هو الطاغي حقيقة. ينتفي فيه التناوش والتعصب.. وحتى الشارع في تلك البلاد مفتوح فقد ترى الحجاب وترى السفور.. وكل بمعتنقه فرح وسعيد تنظر للشارع حينًا فنتحسس مواقع الإيمان وتنظر إليه من جانب آخر فإذا هو مبلغ الكمال.. فالاندونيسيون قلوبهم بيضاء لا تجد فيها ما يتحكر بقلوب العرقيات الأخرى.. فهم ودودون في تعاملهم. وفي سلوكهم.. يحرص الكل منهم على مساعدتك وتذليل مصاعبك بوجه فرح ومبتسم.. وحتى الأطفال دبر كل صلاة يلحون في السلام ووضع يدك على جباههم طبعًا في الحب والبركة. الكل في اندونيسيا خرج للعمل.. تكاد تحس بالمساواة حقيقة بين الذكر والأنثى.. لا مجال لها فالكل ينشد الإنتاج.. فقد بلغت منزلة المرأة هنا شأوًا انها تقود السيارة والدراجة البخارية.. وتعمل في المتاجر وعند طلمبات الوقود وحتى في النفايات.. فقد شاهدت ذلك حقيقة.. الكل يسعى للإنتاج.. لامجال للتبطل والفضول في الناس واخبارهم.. شاهدت من هي فوق الستين وهي تمتطي الدراجة البخارية.. سألتها لماذا لا تجلسين وتتخذين لك متكأ-كما الحال عندنا -..وتوجهي من دونك بالكلام.. ضحكت من سؤالي.. وعاجلتني بأنها لن ترتاح حتى يكون للمرض سلطان عليها.. قلت لها ما هو عملك بالدراجة البخارية.. قالت إنها تذهب بها لدور العبادة وحينها تتخذها «اوجيك» وهو استغلال الدراجة في توصيل أصحاب الحاجات «المشاوير».. عندنا «الطرحة».. ليس فقط تلك المرأة الكبيرة بل حتى المرأة بطفلها الصغير.. وتلك تربطه في نصفها فيكون مرتاحًا وتكون مرتاحة في عملها.. الكل قد خرج يبتغي الرزق والإنتاج.. ورغم الكثافة السكانية هنا في اندونيسيا.. إلا أنهم استحدثوا فرصًا للعمل تعينهم على نوائب الحياة.. فقد وظفوا مهاراتهم.. وطوروا أنفسهم.. باستحداث كل عمل يساعد في دفع عجلة الإنتاج.. فالشوارع على امتدادها مليئة بكل مهنة مستحدثة.. الحكومة هنا لا ترهقهم بتكاليف أو أتاوات أو ضرائب.. ذلك دفعهم إلى إعطاء الشوارع حيويتها .لذلك تجد كل منطقة الخدمات فيها متوفرة.. والحيوية تنتظم جنابتها.. الشوارع هنا عكسنا تمامًا في ذات اتجاه وحركة يمينية.. ولعل هنا تستحضرني طرفة فحال خروجي من المطار.. استقللت «تاكسي».. تزاحمنا أنا والسائق على مقعده.. كنت أحسبه بناء على واقعنا هو مقعدي.. ولكني انتبهت بمطالبته لي بالذهاب إلى المقعد الأيسر.. وكان الضحك هو القاسم المشترك بيننا.. ربما الاختلاف هنا في واقع الحياة كبيرًا.. تمامًا كما التوقيت.. والذي يجعل من بلادنا تأخذ حيز التأخير حتى في جانب التوقيت.. هكذا أشار أحد ظرفائنا الذين لا تخلو منهم دولة ولا مدينة... سألتني إحداهن عن عدد السكان في بلادنا.. أشرت لها بالعدد.. اندهشت.. فسكان بلادنا يقاربون سكان العاصمة جاكرتا.. هل بلادكم صغيرة في مساحتها.. ضحكت وقلت لها بلادنا في المساحة تأتي في المراتب الأولى في العالم.. اندهشت أخرى.. ولكن ما سمعته عن واقع بلادنا إعلامًا وما تنوء به من أزمات وأزمات ربما جعلها تزهد في الأسئلة وماوراءها.. فحالنا قد أحال واقع الدهشة والاستغراب إلى مسلمات واقعية.. سطوة الشباب هنا واضحة.. في كل المرافق والمؤسسات.. فقد أسلمت اندونيسيا واقعها ومستقبلها لشبابها.. لذلك جنت تلك البلاد ثمار ذلك المجهود.. في التعليم وفي الصحة وفي الدبلوماسية وفي كل المجالات.. فقد استفادت إندونيسيا من المنح المقدَّمة لها من كل دول العالم وبنسب كبيرة فأوفدت واستقبلت واهتمت بإطار التعليم ولا بد لذلك أن يكون النتاج وافرًا.. والغاية تتحقق بالاستفادة القصوى من مخرجاته في تسيير شؤون الدولة ودولابها... وغير بعيد لمناسبة الأشياء أن نذكر.. فقد سألني أحدهم.. عن واقع الشباب عندنا.. على ضوء واقعهم.. أسهبت معه كثيرًا في ما ينتظم واقعنا.. لكن لعل واقعنا يكون مبشرًا بعض الشئيء اذا أسلمنا الواقع للشباب بعض ثمار نجاح الشباب قد تكون محفزة لتطبيق التجربة.. لكن شعبنا قد يستعجل نجاح التجربة على عكس الشعب الإندونيسي.. الذي له من الصبر «الجميل» ما يعينه على التطبيق والوصول للنجاح...