هل تجن الحكومات؟ لعل السؤال يبدو غريباً أو ضرباً من الجنون لكن بنظرة متأنية يمكن أن نصل بسهولة إلى نتيجة دامغة بإمكانية إصابة الحكومات بالجنون بكل أنواعه المحدودة والمتوسطة والعنيفة، فالمعروف أن هناك مجنوناً يتسم بالهدوء ويكتفي بالتنقيب في النفايات وهناك الذي يوجه السباب للمارة وهناك الذي يتخطى المرحلة السابقة إلى «حدف» كل ما يراه بالحجارة أو محاولة الاعتداء بالعصا أو بأي آلة حادة، فبعض الحكومات تبدأ مسيرتها بالجن الهادئ وتتعامل بحذر مع المعارضة وتتكلم عن الانفتاح وتمارس على استيحاء اعتقال المخالفين في الرأي وتمارس قدراً من الشفافية في التعامل مع المال العام، ثم لا تلبث أن تتحول إلى مرحلة الجنون المتوسط، فتبدأ بالتضييق على وسائل الإعلام المختلفة وتصادر التي تخرج عن طوعها وتتفنن في صياغة القوانين المقيدة للحريات ثم تتوسع في الاعتقالات وسرعان ما يدب الفساد في أوصالها، ثم تنتقل إلى مرحلة الجنون العنيفة «الكلي» فتحوّل كل مفاصل الدولة إلى خلية أمنية وتقلِّص ميزانية الخدمات والتنمية لصالح الخندقة لحماية نظامها فتعمل على استقطاب العناصر الانتهازية بغرض تحقيق الولاء وإبعاد عناصر الكفاءة ثم تسيطر عليها فوبيا المؤامرة على نظامها فصاحب الرأي المخالف عميلاً أو خائناً والداعية الناصح ينبغي عزله أو إسكاته، ثم تصبح موجة الجنون حاجباً للرؤية الثاقبة والبصيرة النافذة لتلمُّس الأخطاء والتجاوزات في مؤسساتها، وتتحرّج في معاقبة الفاسدين والخاطئين خوفاً من القدح في سمعة نظامها المجنون، لكنها تصل إلى مرحلة «الجن الكلكي العنيف» حين تبدأ الجماهير في الخروج إلى الشارع احتجاجاً على سياستها المجنونة فترسل زبانيتها لاصطياد قادة المحتجين اعتقالاً في البدء ثم قنصاً بالرصاص الحي حين تتواصل الانتفاضات الغاضبة فتشعر أن قبضتها الفولاذية أخذت تنداح، ثم بعد ذلك تنتقل من سياسة القنص الموجه إلى نهج الإطلاق العشوائي إلى صدور ورؤوس المتظاهرين دونما تمييز، والمرحلة الأخيرة استنسختها عدد من الدول العربية في الشهور الماضية فقد مر نظام زين العابدين بن علي في تونس بهذه المرحلة لكنه لم تتلبسه طويلاً حالة «الجن الكلي» فآثر الانسحاب والتنازل من السلطة كذلك فعل نظام حسني مبارك في مصر بعد أن استخدم كل سبل التكتيكات المجنونة لإيقاف مد الجماهير المليونية في ميدان التحرير مستخدماً بعد الرصاص هجمات البلطجية بالهراوات والمطاوي بغرض إخافة الآخرين الذين لم ينضموا بعد للتظاهرات ثم تفتقت عبقرية زبانيتها القساة باستحداث معركة الجمل حيث امتطى البلطحية الجمال لتشتيت جموع المتظاهرين بالقتل والسحل والضرب، بيد أن الفرعون انسحب في أقل من شهر معلناً تنازله عن السلطة بعد ضغوط كبيرة من الجماهير والجيش، غير أن جنون الحكومات تجلى في أوضح أمثلته في كل من ليبيا وسوريا حيث ما زال نظاماهما يصران على الاستمرار في سدة الحكم رغم أنهار الدماء التي أسالوها، وبالرغم أن القذافي الذي بشّر معارضيه الثائرين بالمطاردة «زنقة زنقة» فَقَدْ فَقَدَ سلطته إلا من جيوب من المقاومة ما زال يتخندق ويتمترس بها ويعلِّق عليها آمال السراب الكاذب أن تقوده من جديد إلى السلطة، إنه جنون لا تفيده العقاقير المهدئة أو الكهرباء المسلطة على الرأس، إنه جنون أعمى يتجه ببوصلة لا تعرف إلا اتجاهاً واحداً ولا تقود إلا إلى نتيجة واحدة إما الانتقام والقتل من الثائرين أو المحاكمة المهينة التي قد تفضي إلى السجن الطويل أو إلى المشنقة، ولاشك أن التاريخ المعاصر حافل بهؤلاء المجانين مثل: هلتر وموسليني واستالين ومنغستو، وأرتال من الحكام في القارة السمراء الذين مادت بهم السلطة إلى الهاوية أو الذين ما زالوا يتشبثون بها وهم يطأون على جماجم شعوبهم المقهورة، وأخيراً إن الحكومات المجنونة تنشئ المصحات العقلية لكن من يجرؤ أن يهمس في أذنها بهدوء متسائلاً: «شنو البقنعكم بشوية كهرباء؟».