لو طبقنا حكمة الشافعي في تعاملاتنا اليومية (قولي صواب يحتمل الخطأ، وقولك خطأ يحتمل الصواب) لما صرنا إلى الوضع الذي نحن فيه الآن والذي أصبح نتيجة اتخاذ مبدأ فرعون (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).. أي رؤية المسائل من زاوية واحدة وفرض رأي واحد لا يقبل المناقشة في مسائل تهم الناس جميعًا. وقد أثبت التاريخ أن أكبر وأعظم الحروب في العالم كانت بسب اختلافات الآراء.. كما أن نشوء الفرق والطوائف والتيارات والأحزاب ناتج عن اختلاف الآراء.. فالواقع التاريخي يؤكد أن اختلاف الرأي ليس يفسد الود فحسب.. بل إنه يكفِّر ويقتل ويفرِّق ويقسِّم البشر وينهي كل علاقة إنسانية بين الأطراف.. يدعونا الشافعي إلى ضرورة الإخلاص للرأي وليس للود ويجب أن تكون التزاماتنا في مصلحة الرأي وليس لمصلحة الود.. وإن جعلنا الود يسبق الرأي أو يزاحمه أو حتى يجاريه.. فسنكون مداهنين ومجاملين أو نكون من أصحاب أنصاف الحلول وأنصاف المواقف.. في حين أن الذي يجب أن يسود بين الناس هو أن أي محبة أو صداقة أو مودة إذا كانت مبنية على مجاملته فهذا ودٌّ مريض ولا يعوَّل عليه.. لكن الود الحقيقي هو تقبل الإنسان لآراء الآخرين والبحث فيها عن الحق كما كان يدعو الشافعي (ما تحاورت مع أحد قط إلا ودعوت الله أن يجري الحق على لسانه)، ومن المفارقات أن الشافعي نفسه كان ضحية اختلاف الرأي، فقد روي أنه ناظر أحد المتعصبين للمذهب المالكي يدعي (فتيان) في مسألة الرق وأفحمه، وعندما خلا المجلس من الناس ولم يبقَ فيه إلا الشافعي، انهال عليه أتباع فتيان ضربًا بالهراوات حتى أدموه وأصابوه بجروح قاتلة كانت السبب في وفاته يوم الجمعة لثمانية وعشرين من رجب من العام (204ه)، ويقال إن أحد الفقهاء عاده في مرضه ودعا له قائلاً (قوّى الله ضعفك يا إمام) فتبسم الشافعي وأجاب (قوّى الله ضعفي؟ أتدعو الله أن يزيد ضعفي؟ بل قل: أذهب الله ضعفك وقوّى عافيتك) تلك هي بعض ملامح بعض الزوايا التي سنلج من خلالها إلى عوالم الشافعي الفسيحة والتي قد تلقي بعض الظلال على شاعريته التي هي محور الحديث وهو القائل: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد وإشارته للبيد بن أبي ربيعة فيها ذكاء شديد ومعرفة عميقة بالشعر والشعراء فقد كان لبيد من الشعراء الكبار في الجاهلية وقد أسلم وحسن إسلامه، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد، ألا كل ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل، وأضاف الرسول الكريم إلا نعيم الجنة) ويقال إن عمر بن الخطاب قال له (أنشدني شيئًا من شعرك يا أبا عقيل، فأجابه (ما كنت لأقول شعرًا بعد أن علمني الله البقرة وآل عمران) وقد مدح النابغة الذبياني لبيد بن أبي ربيعة بأنه (أشعر العرب)، أما الفرزدق فقد روى عنه أنه مر برجل ينشد معلقة لبيد (عفت الديار محلها فمقامها)، ولما بلغ البيت القائل: وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونها أقلامها سجد الفرزدق فقيل له: ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر. ويقال إن لبيدا بن أبي ربيعة مات في عهد معاوية بن سفيان بعد أن عاش مائة وخمسة وأربعين عامًا عليه رحمة الله تعالى. إن المقطوعات الشعرية التي وصلتنا من شعر الشافعي تدل دلالة واضحة بأنه لو انقطع للشعر لكان بالفعل أشعر العرب، ففي شعره من حلاوة الجرس، وحسن النظم، وعمق المعنى، ودلالة الرمز ما يجعله في أعلى درجات الشعر. ما تقدم بعض ملامح الزوايا التي سنتناولها في ليلتنا عن الشافعي عليه رحمة الله تعالى، ليس حديثًا عن سيرته، أو تناولاً للتجديد الذي أتى به في الفقه، أو قولاً في أهم سمات مذهبه الذي اشتهر في العديد من البلاد العربية كونه ثالث أئمة المذاهب الأربعة، فهذا بحر متلاطم الأمواج عميق لا يخرج جواهره إلا غواص أحكم الصنعة وأكمل العدة، ولكننا سنتناول جانبًا من إبداعه الشعري وفق رؤية تتبع المنهج النيوي، وعلى الأربعائيين الكرام الاستعداد للأمسية بالإطلاع على ما يعن لهم من هذا الإمام الجليل والقراءة عنه في الكتب والمواقع الأسفيرية حتى تكون الأمسية مفيدة وممتعة.. وعلى الله قصد السبيل.. تعقيب: إن من أمتع لحظات الأربعائيين دومًا هي أنهم حين تأتيهم فرصة أن يعيدوا صياغة التاريخ وفق منهجهم ورؤيتهم يكونون أكثر الناس زحفًا نحو تبيان ما حدث وفق معطيات ورؤى تخصهم هم لا غيرهم وأن من أمتع المتعة أنك حين تأتي بالتاريخي في شخص فإنك ترى من خلاله كيف كان الناس في ذاك التاريخ بمعيار اليوم ومعية اليوم والآني والمتاح من من إمكانات كبيرة لرؤية أكبر وأجمل. إننا حين نتحدث عن الإمام الشافعي أو غيره من أولئك الذين غيروا التاريخ أو أضافوا أو اضاؤوا أو أناروا أو أشعلوا قناديل الوعي والنهضة فإننا إنما نستبين ملامح الطريق والخطى لنتمكن من أخذ العبر والدروس.. واحدة من المناظير التي نستصحب دومًا هو المكان والأربعائية هي فضاء وحيز أو حيز وفضاء قلما تتعثر فيه فالرؤية واضحة رغم خفوت الضوء ولكن الفكرة مشعة جدًا. وضعنا الأستاذ سيف الدين في منهج إدارة الليلة ومنظوره لكيفية تناول مآثر الرجل باعتباره واحدًا من المفكريين الأربعائيين إن جازت لي التسمية لأن الأربعائي متمرد على السائد رافض الاستسلام للمعتاد ورافض لقبول المسلمات إلا بعد تمحيص وإضافة ما يمكن أن يكون سمة لنا في الأربعائية، إن حركة التاريخ هي حركة مكررة أحيانًا رغم اختلاف المطالع والجهات ورغم اختلاف الزمان والمكان إلا أن إنتاجًا متشابهًا من أفكار ورؤى ممكن جدًا. إن الجغرافيا كثيرا ما تحول دون أن ننظم مقارنات بين متوافقين متشابهين لأن التاريخ قد وضع واحد في المقدمة للناس أجمعين والآخر لأناس محدودين. أن تناول سيرة الإمام الشافعي يمكن أن ينير لنا بعض الزوايا الخافية في كيفية تشابه إنتاج المجمل لا المفصل. محمد حرسم