لا يذكر جرير إلاّ ويذكر معه الفرزدق والأخطل، هذا الثلاثي الذي اشتهر بالنقائض اعتبر لدى معظم الدارسين والنقّاد بداية النهضة الشعرية العربية بعد الإسلام. وقد ألقينا الضوء على جرير والأخطل، وعرفنا حكايات بعض قصائدهم ونجد أننا إذا لم نتناول الفرزدق فستظل الدائرة غير مكتملة. والفرزدق ليس هو اسم الشاعر بل لقب غلب عليه، ومعنى كلمة الفرزدق في اللغة العربية الرغيف الضخم الذي تجففه النساء لاستخدامه في الثريد،وعلى ما يذكر بعض الرواة، فإن وجه ذلك الشاعر كان يشبه ذلك الرغيف الضخم بجهامته وغلظته، أما اسمه، فهو همام بن غالب بن صعصعة بن دارم بن تميم، أما كنيته، فهي أبو فراس. وما يروى عن جدّه صعصعة أنه كان محيي الموؤودات، حيث كان لدى العرب في الجاهلية عادة كريهة، وهي دفن المولودة الأنثى، وهي حيَّة للتخلص من عارها المحتمل أو من أعباء معيشتها.. والوأد هو دفن تلك المولودة حيَّة. وقد حارب الإسلام تلك العادة القبيحة وحرّمها. وتذكر الروايات أن جد الفرزدق صعصعة وكان ذا عز وجاه ومال، مرّ ذات يوم برجل يحفر حفرة، وإلى جانبه امرأته تبكي وتنوح، فقال صعصعة: ◆ ما يبكيك يا امرأة ◆ قالت: هو.. هو الذي يبكيني. ◆ ولماذا؟ ◆ أترى هذه الطفلة؟ ◆ أراها.. إنها جميلة وبصحة جيدة. ◆ هو يريد أن يئدها. ◆ يدفنها حيّة؟ ◆ نعم.. والله لأسهل عليَّ أن يدفنني أنا ويتركها حيَّة. توجّه صعصعة إلى الرجل الذي كان يحفر الأرض: ◆ لماذا تريد أن تدفن ابنتك وهي على قيد الحياة.. ما هو السبب؟ ◆ الفقر.. ليس لديّ ما أطعمها.. ولا حتى ما أطعم إخوانها. ◆ وما رأيك ببيعها لي. ◆ بكم تشتريها؟ ◆ بناقتين يتبعهما أولادهما، تعيشون بألبانهما.. ◆ أعطه البنت يا امرأة، إني بعتها لك يا صعصعة. أخذ صعصعة الطفلة، بعد أن أنقذها وأعطاها لأمها قائلاً: ◆ فديت ابنتك فاعتني بها ولا تسمحي لأحد أن يؤذيها، فهذا حرام.. حرام. وعاهد صعصعة نفسه ألا يسمح بموؤودة إلا فداها حتى قيل: إنه فدى ثلاثمئة موؤودة.. وقد كانت هذه الروايات مصدر فخر للشاعر الفرزدق وقد أشار إليها في عدة قصائد نظمها منها: أبي أحدُ الغيثين صعصعةٌ الذي متى تخلف الجوزاء والدلو يُمطرِ أجارَ بناتِ الوائدين ومن يُجِرْ على الفقر يَعْلمْ أنّهُ غير مخفرِ أنا ابن الذي ردّ المنيةَ فضلهُ فما حسبٌ دافعتُ عنه بمعورِ أما أبوه غالب بن صعصعة، فقد كان ذا مال وجاه، وكان عزيزاً كريماً يضرب بجوده المثل. وقد افتخر الفرزدق بأبيه كما افتخر بجده. ولكن أباه غالب كان بالإضافة إلى الجود والثراء محباً للشعر يحفظه ولا ينظمه، ومما يروى عنه أنه جاء ومعه ابنه الفرزدق إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد موقعة الجمل بالبصرة، فقال: ◆ إن ابني هذا من شعراء مضر فاسمع منه.. فقال الإمام علي: علمه القرآن.. وظلت وصية الإمام علي هذه في نفس الفرزدق فقيد نفسه وأقسم ألا يحل قيده حتى يتم له حفظ القرآن.. ولم يحل نفسه، إلا عندما وصل الثلاثين من عمره، حيث تم له ذلك. عاش الفرزدق شاعراً متفرغاً للشعر، لا عمل له سواه وما كان بحاجة للتكسب من شعره فهو ابن رجل غني، ومن أسرة عريقة وينتمي إلى خير قبائل العرب (تميم) والتي مدحها خصمه اللدود جرير بقوله: إذا غضبَتْ عليكَ بنو تميمٍ حَسِبتَ الناسَ كلَّهُمُ غَضابَا ولد الفرزدق نحو سنة 19 هجرية في خلافة عمرو بن الخطاب رضي الله عنه، نشأ الفرزدق ما بين البصرة والسيدان في بادية البصرة، وكانت البصرة في بداية العصر الإسلامي تعتبر بمثابة موطن للعرب، خاصة المقاتلين منهم، وهذا ما أكسب الفرزدق فصاحة النطق وعلمه دقائق اللغة، وجعله عالماً بأخبار العرب وأيامها، خاصة أيام تميم المجيدة. وفي هذه البيئة العربية الخالصة، وجد الفرزدق نفسه يميل إلى الشعر يحفظه وينظمه منذ طفولته.. ولقي الفرزدق تشجيعاً من أبيه الموصوف بالمتلاف، لشدة كرمه والمعتبر من خيرة الفرسان الشجعان. مال الفرزدق إلى الفخر في شعره، كما أبدع في الهجاء، وأما مديحه فهو قليل.. وقصائد المدح كانت لديه قصيرة لا تقاس بقصائد الهجاء وقصائد الفخر التي نظمها.. لذلك قال الرواة والنقاد عن الثلاثة: كان الأخطل أمدحهم. وكان جرير أهجاهم. وكان الفرزدق أفخرهم. سجل تاريخ الأدب العربي ظاهرة النقائض، حيث كان الشاعر يقول قصيدته في هجاء غيره، ويرد غيره بهجائه فلا يصمد إلا الفطحل، ولا يبقى في الساحة إلا الشاعر القوي.. ولم يصمد في ساحة النقائض وحربها التي استمرت أكثر من أربعين عاماً إلا ذلك الثلاثي الذي أشرنا إليه الفرزدق والأخطل وجرير. يقول الناقد كمال أبي مصلح: «ولج الأخطل في هذه المعمة دخيلاً فما لبث طويلاً حتى صار أصيلاً، وقد بدأ هذا الولوج في المعمعة، عندما بلغه احتدام الهجاء بين الفرزدق وجرير، وكان الأخطل في الشام، فقال لابنه البكر مالك. ◆ انحدر إلى العراق وأتني بخبرهما. فانصاع مالك، وانحدر يطلب حقيقة الأمر ولما عاد سأله أبوه: ◆ ماذا وجدت؟ قال مالك: وجدت جريراً يغرف من بحر.. والفرزدق ينحت من صخر. قال الأخطل: أشعرهما.. الغارف من بحر. وبسرعة انتشار النار في الهشيم وصل قول الأخطل إلى الفرزدق ورهطه في البصرة.. ثم عنت للأخطل حاجة في العراق فطلبها وتسامع بنودارم (عشيرة الفرزدق) بقدومه فحمل إليه بعضهم هدايا ومالاً وقالوا له: ◆ لا تُعن على شاعرنا.. واهجُ هذا الكلب الذي يهجو بني دارم. فنظم الأخطل قصيدته التي يقول فهيا: أَجريرُ إنكَ والذي تَسمو لَهُ كَأُسيفةٍ فخرَتْ بحَدْجِ حَصَانِ فكانت تلك هي الشرارة الأولى لدخول الأخطل معمعة النقائض، إلى جانب الفرزدق وضد جرير حتى مات، وظل الفرزدق وجرير بعده في معركة الهجاء والذي كان أشبه بإعلام هذا الزمان. وعندما توفي الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان وكاتب أهل الكوفة الحسين بالخلافة، واستنهضوه إليهم سار إليهم في أهل بيته فلقيه الفرزدق في الطريق قادماً من العراق، فسأله الحسين عن أهل الكوفة فقال له: ◆ يا ابن رسول الله.. قلوبهم معك وسيوفهم مع أعدائك.. كان الفرزدق باراً بأبيه متفانياً في محبته موقراً له في حياته وبعد مماته وقيل إنه كان يجير من يعوذ بقبر أبيه غالب في كاظمة. كيف لا وأبوه غالب هيأ له أسباب العيش الكريم، وزوده بمواقف في الفروسية والشجاعة والندى كانت مصدر الفخر في شعره. وحكاية القصيدة التي اخترناها اليوم تبين بوضوح مدى حب الفرزدق لآل البيت وللإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. تقول الحكاية: إنه في زمن الخليفة الوليد بن عبدالملك بن مروان، قام أخوه هشام بن عبدالملك بأداء فريضة الحج، وكان الفرزدق يقوم بأداء تلك الفريضة أيضاً، وهو في السبعين من عمره. وكان مع الأمير هشام بن عبدالملك رؤساء أهل الشام، فجهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يقدر لشدة ازدحام الناس. فأمر هشام فنصب له منبر جلس عليه ينظر إلى الناس من أعلى فأقبل زين العابدين علي بن الحسين، وهو أحسن الناس وجهاً، وأنظفهم ثوباً، وأطيب رائحة، فطاف بالبيت، فلما بلغ إلى الحجر الأسود تنحى الناس كلهم وخلّوا الحجر ليستلمه تعظيماً وهيبة وإجلالاً.. فغاظ ذلك هشام فقال رجل لهشام: ◆ من هذا أصلح الله الأمير؟.. فقال هشام: لا أعرفه.. يقول الرواة.. أنكر هشام معرفته بعلي بن الحسين لخشيته أن يرغب فيه أهل الشام. كان الفرزدق حاضراً، ولم يعجبه كلام هشام.. فصاح دون خوف أو وجل: ◆ أنا أعرفه.. قال هشام: ومن هو؟.. قال الفرزدق مرتجلاً قصيدته الشهيرة.. والتي قام هشام بوضعه في السجن بسببها مدة ليست بالقصيرة: هذا الذي تعرُ البطحاءُ وَطْأتَهُ والبيتُ يَعرفُهُ والحِلُّ والحَرَمُ هذا ابنُ خيْر عبادِ اللهِ كُلِّهمُ هذا التقيُّ النقيُّ الطاهِرُ العَلَمُ هذا ابنُ فاطمَةٍ، إن كنتَ جاهلَهُ بجَدّهِ أنبياءُ اللهِ قدْ خُتِموا وليسَ قولُكَ: من هذا؟ بضائِرهِ العربُ تعرفُ من أنكرتَ والعَجَمُ كِلتا يَدَيْهِ غِياث عمَّ نفعُهُما يُستوكفانِ، ولا يَعْروهُما عَدَمُ سهل الخليقةِ، لا تخشى بوادرهُ يزينُهُ اثنانِ: حسنُ الخَلْقِ والشيم حَمَّالُ أثقالِ أقوامٍ، إذا افتُدِحوا حُلْوُ الشِمائل، تحلو عِندَهُ نَعَمُ ما قال: لا قطُّ، إلا في تشهُّدِهِ لولا التَّشهُّدُ كانت لاءَهُ نَعَمُ عَمَّ البَرِيَّةَ بالإحسانِ فانقشعَتْ عنها الغياهِبُ والإملاقُ والعَدمُ إذَا رَأَتْهُ قريشٌ قالَ قائِلُها: إلى مَكَارم هذا ينتهي الكَرَمُ يُغضي حَياءً ويُغضى مِن مهابتِهِ فما يُكَلَّمُ إلاّ حين يَبْتَسِمُ بكفِّه خيزرانٌ ريحُها عَبِقٌ مِن كفِّ أروعَ، في عِرْنينِهِ شَمَمُ يكادُ يُمْسِكُهُ عرفانُ راحتِهِ ركنُ الحَطِيمِ إذا ما حاء يَسْتَلِمُ اللهُ شرّفَهُ قدماً وعَظّمَهُ جرَى بذاكَ لَهُ في لَوْحِهِ القَلَمُ يُنمى إلي ذروةِ الدينِ التي قَصُرَتْ عَنها الأكُفُّ وعَنْ إدراكِها القدم مَنْ جَدُّهُ دانَ فضلُ الأنبِياءِ لَهُ وفضلُ أُمتِهِ دانتْ لَهُ الأمُمُ مُشتقةٌ من رَسول اللهِ نَبْعَتُهُ طابت مَغارِسُهُ والغيمُ والشِيمُ ينشق ثوب الدجى عن نور غرته كالشمسُ تنجابُ عَن إشراقِها الظُّلَمُ مِنْ مَعشرٍ حبُّهُمْ دينٌ وبُغضُهمُ كفرٌ وقرْبُهُمُ مَنْجىً ومعتَصِمُ مقدَّمٌ بعدَ ذِكر الله ذِكْرُهُمُ في كلّ بَدْءٍ، ومَختومٌ بهِ الكَلِمُ إنْ عُدَّ أهلُ التقى كانوا أئِمَّتَهُمْ أوْ قيلَ: مَنْ خَيرُ أهلِ الأرضَ؟ قيلَ: هُمُ لا يستطيعُ جَوادٌ بعدَ جودِهِمُ ولا يُدانيهِمُ قَوْمٌ، وإنْ كَرَمُوا هُمُ الغيُوثُ إذا مَا أزمةٌ أزَمَتْ والأُسْدُ أُسْدُ الشرى، والبأسُ مُحتِدمُ لا ينقصُ العُسْرُ بَسْطاً من أكُفِّهِمُ سيانُ ذلكَ: إن أثروا وإنْ عَدِموا يُسْتَدْفَعُ الشرُّ والبلوى بِحُبِّهمُ ويُسْتَرَبُ بِهِ الإحْسانُ وَالنِّعَمُ المصَادر والمراجع: -1 الفرزدق حياته وشعره/ المكتبة الحديثة للطباعة والنشر - بيروت. -2 الأغاني/ أبو الفرج الأصفهاني. -3 لسان العرب/ ابن منظور. جريدة الاتحاد