لا شك أن هذا الشعب الذي اكتوى بلهب الجدل والصيال تجاه هذه المصفوفة التي استجرت حولها الآراء، وتباين نحوها الأهواء، يعد من أغزر الناس مادة في السياسة، وأكثرهم إلماماً بأضلاليها وأوهامها، فكيف لا يتفق له هذا وهي التي أنشبت فيه مخالب الفقر، وغرست حول أوداجه أنياب الهوان، فالمواطن الكادح الذي يعيش في زاوية نائية من دائرة اهتمام حكومتنا الحفيّة كلأها الله بعين رعايته، وأمدها الحسيب بفيض عنايته، لو دوّن السادة أقطاب الفضل ما يند من ثغره من عبارات، وما يلقيه ذهنه من ومضات، لخرجوا بمحصول نفيس يغمر مكاتبهم الفارهة، ويشغل دواوينهم العامرة بالغنى والرياش، ليت أرباب الحكم والتشريع في بلادي يدركون أن أحاديثنا حول فطنة ونبوغ هذه الأمة الصابرة على عرك الشدائد لم تصطبغ بهالات المبالغة والتهويل، فقد نفعتنا مجالسة أحلاس القهوات أجزل النفع، فهم يعرفون فن السياسة كنهاً وحقيقة، فالمواطن البائس الذي عاش طوال عمره في متاعب جسام، وأعباء ثقال، ينوء عن حملها البعير البازل، وتهوي من فداحتها الناقة المكتنزة، يدرك بحدسه وألمعيته الفرق بين السياسي المحنّك صاحب القدرة الفائقة على التلوين والتنويع في أغاريده، والآخر الضعيف الرأي، المنحل العزم، الذي تتنافر آراؤه، وتتناكر اهواؤه، نعم يعلم أصحاب الأجساد النحيفة، والحاجات الخفيفة، والأنفس العفيفة، البون الشاسع بين البلابل المغردة، والطيور الساجعة، وبين نقيق الضفادع ونعيب الغربان. إن اليقين الذي لا يخامره شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن تلك المصفوفة التي أدمت مهجًا، وحطمت قلوبًا، وأطفأت أرواحًا، ليس من الغلو ولا من التشاؤم في شيء أن نقول إنها قراطيس قميئة، نحيفة، جدبة، غذَّت الذهن باليأس، وأمدَّت الشعور بالقنوط، أوراق أمضاها ثلة تحسب أنها ذللت لنا المتعذر، وسهّلت لنا المتوعِّر، مع مطايا الخطيئات، وزوامل الآثام، أوراق لا تستحق أن يخصها الكُتّاب بكلمة ثناء، بل هي خليقة بأن تطوف حولها الريب، وتتداعى حولها الظنون، فعباراتها التي خلت من البشاشة البيانية هي التي دفعتنا إلى ذلك الزعم، كما أن أسلوبها الجامد يجعلنا نقف بعيداً لنرمقه بنظرات التوجس والشكوك، فنحن نخشى أن تكون هذه المصفوفة مثل رصيفاتها التي لم تجلب سوى البوار والدمار، دعوني أُفصح عن دخيلة نفسي أيها الأماجد وأقول في بساطة إنَّ هذه المصفوفة هي في مجملها عبارة عن فصول تفصح عن أسباب القلق الذي يسود بيننا الآن لأننا نعلم جلياً أنها سوف تتجنى علينا كما يتجنى خصومُنا الألداء على مقوم وحدتنا، والحقيقة التي تؤذينا أشد الإيذاء أن هذه المصفوفة ليست ألفاظاً ضم بعضها إلى بعض، بل هي جروح أضيفت إلى جروح، وهوان التف حوله هوان. نريد أن نعرف أيها السادة ما الذي يتأتى لنا من ويلات هذه المصفوفة؟ فهي شر كلها، وما هي المغانم والأسلاب التي سوف نتحصل عليها من إبرام حزمة هذه الاتفاقيات؟، ليت شعري هل سيرضى عنا المتربصون؟، أم سيواددنا الجاحدون؟ فحكومتنا الرشيدة التي تجعل لكل طبقة كلاماً، ولكل حالة مقاماً، حتماً لن نظفر منها بإجابات شافية لتلك الأسئلة الحيرى التي تعصف بأذهاننا، فهي كما تعلمون قليلة الحفل بما يثور في ضمير المجتمع من مآسٍ وعلل، ولكن أليس ذلك كله يعد فناً من فنون التعجيز، وضرباً من ضروب الإغراب والتيه، فالمطَّلع على ظواهر الأمور يدرك أن حكومتنا الفتية قد تسلحت بهذا السلاح منذ بواكير صباها، ودأبت على ملازمته والحرص عليه كما تحرص على الفرائض، فهي ترفض وتسرف في الرفض وتغالي فيه، ثم فجأة تعلن عزمها عما أوغلت في رفضه واستهجانه، والأمثلة على ذلك يفوق عددها الإحصاء، ولعل أرمضها على النفس قبولها أن تتفاوض مع تلك الطائفة التي سهم وجهها، وأسدف سناؤها، ذلك القطاع الذي لا تؤلمه الغضاضة، أو يمضه الهوان، منحته المتصدية العنون، والجامحة الحرون، ملايين الدولارات لأن أقطابه الذين يتلذذون برؤية الدماء المنزوفة، والدموع المذروفة، يفعلون ما تمليه عليهم سيدتهم دون تحفُّظ أو احتراس. أما بعد، لن يجزع قطاع الشمال من العزلة، أو يفزع من الانفراد، طالما ارتضت حكومة المؤتمر الوطني مفاوضته، ولن تستطيع هذه المصفوفة الصفيقة أن تحول شائنيها إلى أنصار أوفياء، أقول هذا وأنا مشفق على حكومتنا من غلبة الجُهّال، ودول الضلال، وبغي الفُجار، لهفي على تلك الأيام النواضر التي كانت فيها الأملاء مجتمعة، والأهواء متفقة، والقلوب معتدلة، والأيدي متعاضدة.