لمحت شريطاً إعلانياً عن مدرسة لتعليم رقيص العروس. فالتركيبة النفسية لأية عروس سودانية تقتضي أن تجتاز عدداً من الرقصات فيما بات يعرف منذ زمن بعيد «برقيص العروس» وكانت لا توجد أي عروس لم ترقص عدداً من الرقصات تتدرب عليها في معسكر مقفول على يد مدربة ضليعة من أمثال نصرة وقسمة وستونة. والبنت خريجة أعرق الجامعات والتي تكون قد درست كل الدروس اللازمة حتى نالت درجة الدكتوراه تشعر ان تعليمها ناقص ان لم تتمه نصرة أو قسمة أو ستونة.. وذلك عندما يدق ابن الحلال على جرس مكتبها أو عيادتها. ومعلمات الرقص في ذلك المعسكر المقفول هن مواكبات لحركة المجتمع ولا تفوتهن فائتة دون أن تدخل في أغانيهن منذ ان كان السودان متأثراً بالأحداث العالمية مثل: ياهتلر الالماني موسوليني يا التلياني كن تضرب السوداني تطلع ريال براني .. مابسير هنا .. وأغاني من امثال : الله لي كوريا .. ياشباب كوريا وذلك عندما نشبت الحرب الكورية عام 1950. وعندما أصبح الاغتراب واقعاً اجتماعياً يخيم على الحياة السودانية كانت نصرة وزميلاتها يتغنين: السافر جدة خلاني براي .. وكانت العروس تشير بيدها دلالة على حكاية «براي براي هذه» .. اشارات استدلالية لا توجد في قاموس أي راقصة باليه. وعندما حدثت لوثة البوكس الهايلوكس موديل 83 لم تتقاعس نصرة وزميلاتها عن اللحاق بركب ذلك البوكس الاسطورة فنظمن اغنية للعروس تقول: جاب شيلتو بالهايلوكس والهايلوكس سيوبر ديلوكس أوكما جاء في ملحمة الآليات الثقيلة: جاب لوري هينو وكمل نص دينو بعد ماشاف بعينو ثم إن موضوع: يا ماشي لي باريس جيب لي معاك عريس شرطاً يكون لبيس من هيئة التدريس انتهى ذلك العهد بعد أن تقلصت مكانة المدرس والذي هو من هيئة التدريس وأصبح يتغنى بحالة كونه: قم للمعلم وألعنن إبليسا كاد المعلم أن يموت فطيسا ولكن حالة الهجرة التي لم تترك أحداً أنبتت غناءً من نوع: يا ماشي لي مونتانا جيب لي معاك مولانا دا العرس بفوقنا فلانة ومسخ علينا غدانا وهكذا تسير حركة «رقيص العروس» مواكبة وموازية لحركة التحولات في المجتمع اقتصادياً وسياسياً. وقد حكى لي أحد الإخوة الظرفاء أنه وبعد أن أخذت الكلمات من اللغات الأجنبية تدخل في محاوراتنا الشفاهية لم تغفل نصرة وزميلاتها من تضمين ذلك في أغاني «رقيص العروس». فمثلاً تتسلل اغنية الفنان الطيب عبد الله «قالوا لي انساه وامسح من خيالك ذكرياتو» الى احدى الرقصات فيغني كورس البنات: قالوا لي انساه وامسح من خيالك ذكرياتو وعندها «تنفنس» العروس «إنفناسة» ذات مغزى وتطقطق بأصابعها وتقول : إمبوسسيبول IMPOSSIBLE ويستمر الكورس في الغناء: وانسى كل الماضي وابعد عن طريقو وعن حياتو. فترد العروس بانفناسة أخرى وطقطقة أخرى وهي تقول: إمبوسيبول IMPOSSIBLE والسودانيون هم السودانيون في كل مكان وزمان وعروسهم هي العروس ولا يهم ان تكون من كويرة أو لندن.. نفس الطقوس ونفس المجاراة للأوضاع الاجتماعية وفي زيارة لي للندن التقيت ببعض الإخوة وكان الحديث يدور عن أن مايشغل بال المهاجر إلى بريطانيا أن يحصل على إذن الاقامة وعلى الدعم المادي «انكوم سبورت» INCOME SUPPORT وبالطبع لا يمكن أن تغفل نصرة اللندنية عن هذه الحقيقة التي تشغل بال قطاع كبير من المواطنين فرضت عليهم الظروف ان ينشدوا الاقامة في بريطانيا.. وبالطبع فإن الناس يتزوجون تحت كل الظروف وكل الأجواء ولذلك كان لا بد أن يعكس العرس اللندني حقيقة الأوضاع الجديدة بالنسبة للمغتربين المهاجرين إلى بلاد الغال.. ولذلك كانت العروس ترقص على أنغام جديدة وكلمات جديدة بعيداً عن الهايلوكس ولوري هينو وسافر جدة خلاني براي .. وقد تفتقت عبقرية نصرة اللندنية عن أغنية تقول: استلم الباسبورت يايمة وعمل الريبورت يايمة وقبض الانكوم سبورت يايمة وطبعاً فإن يمة ستكون في غاية الانبساط لذلك الإنجاز التاريخي الذي حققه العريس فقد استلم الباسبورت وعمل الريبورت وقبض الانكوم سبورت فهل هناك مايدعو للشكوى. والعروس المحظوظة ترقص على انغام تلك الكلمات وتحرز الأهداف النظيفة في العريس وقد ضمنت مستقبلها تحت حماية الامبراطورية البريطانية. وأرجو أن تفتح هذه المدرسة فصلاً لها في بريطانيا وما وراء البحار.